الفرصة سانحة لنا اليوم للقيام بأقوال وأفعال يسيرة، معظمنا قادر عليها، هي سانحة وقائمة اليوم؛ لأننا نعيشه، ولسنا ندري: أهي سانحة يوم غد أم لا؟ لأن الغد من الغيب، ولا ندري إن كنا سنحيا للغد.
أقوال وأفعال الفرصة التي نتكلم عنها لا تحتاج إلى حافظة متميزة، ولا إلى قدرات عضلية خارقة، ولا إلى مهارات حرفية متخصصة، الجميع يستطيع أن يفعلها: الصغير والكبير، المريض والصحيح، الغني والفقير، العالم والمتعلم، الشريف والبسيط، القريب والبعيد.
إنها فرص ذهبية وعطايا منحها لنا ربنا تبارك وتعالى؛ رحمة ورأفة بنا، وتلك من رحمته الواسعة التي شملت عباده، فالكثير من الناس ضعفاء، قليلو الهمة، ناقصو العزيمة، قاصرو النظر، مفرطون بما هو خير لهم.
لقد أتاح لنا الله تعالى هذه الأقوال والأفعال، التي هي بمثابة هدية قيمة لعباده لا تُقدَّر بثمن، فينبغي لنا أن نفعلها ولو باليوم مرة، أو بالأسبوع مرة، أو بالشهر مرة، أو بالعمر مرة، ففيها الخير الوفير، بل فيها النجاة بإذن الله.
وسنختار من هذه الفرص أيسرها، والتي يستطيع الجميع أن يقوم بها؛ فمنها:
أقوال سهلة: فهناك مجموعة من الأقوال هي كلمات سهلة، معظم الناس يحفظها، إذا قالها الفرد سيحصل بموجبها على جزاء كبير جدًّا؛ فمن ذلك:
لا إله إلا الله: وهي كلمة الإخلاص الطيبة الباقية، ويسير علينا أن نقولها كل حين، فنستطيع أن نقولها ونحن نمشي، أو واقفين، أو راكبين أو مستلقين وهكذا، وجزاء قول هذه الكلمة عظيم، فأولها أن الله يحرم على نار جهنم أن تحرق قائلها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله))[1].
ومن جزاء هذه الكلمة أن قائلها تناله شفاعة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ((قيل: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت يا أبا هريرة ألَّا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أولى منك؛ لِما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه، أو نفسه))[2].
فهل نعجز أن نقول بل نردد: (لا إله إلا الله) في يومنا مرة أو مرتين أو مائة مرة، ونحن على الحال الذي نحن عليها، قيامًا وقعودًا، وماشين وجالسين؟ فمن مشاهد يوم القيامة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله سيخلص رجلًا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلًا، كل سجل مد البصر، ثم يقول له: أتنكر شيئًا من هذا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر أو حسنة؟ فيُبهت الرجل، ويقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، قال: فلا يثقل اسمَ الله شيءٌ))[3]، إن (لا إله إلا الله) لا يعدلها شيء، فهي ثقيلة الفحوى والأجر.
لا حول ولا قوة إلا بالله: وهي كنز من كنوز الجنة، فمَن مِنَّا لا يريد أن ينال أقل ما في الجنة فضلًا عن كنوزها؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبدالله بن قيس، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة، أو قال: ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله))[4].
آمين، وسمع الله لمن حمده: كلمتان يقولها كلنا كل يوم في الصلاة، والكثير من الناس لا يعي قيمتها وقدرها، وهما كلمتان تجلبان مغفرة الله تعالى؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى غُفر له ما تقدم من ذنبه))[5].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غُفر له ما تقدم من ذنبه))[6].
أستغفر الله: والاستغفار من الوصفات المهمة التي وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففيها تفريج الهموم، وجلب الأرزاق، والمخرج من كل ضيق؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل همٍّ فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب))[7].
فضلًا عن أذكار أخرى كثيرة، بل لا تعد ولا تحصى، علَّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، وما هي إلا كلمات قليلة العدد كبيرة المعنى والأجر، حين تخرج من صميم القلب وينطقها لساننا تقربًا إلى الله تعالى، يقبلها الله تعالى منا، فهل نعجز أن نقولها في يومنا بليل أو نهار، وكل ما ذكرنا هو (ذكر الله تعالى) الذي لا يوازيه عمل؛ فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل، وقال معاذ بن جبل: ما عمل آدمي من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل))[8]، فدعونا نرددها بقلوبنا قبل ألسنتنا قبل فوات الأوان.
أفعال يسيرة: وهي مثل تلك الأقوال، فهي صغيرة ولكن قيمتها كبيرة، يكتب لها الله تعالى القبول حين تكون خالصة لوجهه، فيربيها لنا لتكون حسناتها كالجبال؛ منها:
المساهمة ولو بالشيء القليل في بناء مسجد؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من بنى لله مسجدًا ولو كَمِفْحَصِ قَطَاة لبيْضِها، بنى الله له بيتًا في الجنة))[9]، والقطاة طائر معروف قريب من الحمامة، فلا يمكن أن يُبنى مسجد بقدر مكان بيض هذا الطائر، ولكن الحديث دليل على أهمية المشاركة في بناء مسجد لله تعالى، فجاءت المكافأة كبيرة جدًّا؛ وهي بيت في الجنة، ومَن مِنَّا لا يريد أن يكون له بيتًا في الجنة؟
المسح على رأس اليتيم: ففي الحديث: ((إن أردتَ تليين قلبك، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم)).
حسن الخلق وترك الكذب والجدال: فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه))[10].
نقاء السريرة: من أعظم مقاصد الشريعة أنها تهيأ الإنسان لأن يكون نقيَّ السريرة، ونقاء السريرة هو الركيزة الذي تُبنى عليه الشخصية المؤمنة، فالعفو عن الآخرين وتجاوز عثراتهم، ونسيان ما كان منهم، وحسن الظن بهم - كل هذا يؤدي إلى راحة قلبية عظيمة تتبعها راحة بدنية هائلة، وكل ذلك لن يكون إلا بنقاء السريرة.
الصدقة: وهي تقديم ما يمكن من مال أو لباس أو أكل لإنسان محتاج، ولو كان ما تتصدق به قليل؛ لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشجع على الصدقة وإن كانت قليلة، بل وإن كانت نصف تمرة، فهل عجزنا أن نجد نصف تمرة فنتصدق بها؟
فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة))[11].
هذه نماذج من بعض الأقوال والأفعال اليسيرة على كل إنسان كما قلنا، ينبغي على كل عاقل أن يفعلها قبل فوات الأوان ولا يتركها؛ لأن فيها النجاة، وهي ليس كل شيء، فهناك الكثير منها، ويفعلها الناس بحسب علمهم وقدراتهم وعلو همتهم وعزيمتهم؛ فهناك من يقوم الليل ويصوم النهار، ومنهم من شغله القرآن حفظًا وتلاوة عما في الدنيا، ومنهم من أسهر ليله وشغل نهاره بالدعوة إلى دين ربه.
لقد فات الأوان على الكثير من الناس من الذين شغلتهم أشياء كانوا يرَونها من الفضيلة وخدمة الناس، وكانت صيتًا لهم في هذه الدنيا، ولكنهم فشلوا في أن تكون علاقتهم مع الله تعالى على الوجه الصحيح، فخسروا كل شيء.
لعل من هؤلاء: عبدالله بن جدعان، ذلك العربي المعروف بكرمه وحكمته وشهامته، وكم سمعنا عنه! وله مواقف مشهودة؛ ولعل أهمها أن حلف الفضول في الجاهلية - بما فيه من أسس الخير والفضيلة ونصر المظلوم - عُقد في بيته، ولكن كل ذلك لم ينفعه؛ لأنه لم يسلم، ولم يقل: ربي، اغفر لي يومًا؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((قلتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابن جدعان في الجاهلية كان يقري الضيف، ويحسن الجوار، ويصل الرحم، فهل ينفعه ذلك؟ قال: لا، إنه لم يقل يومًا قط: اللهم اغفر لي خطيئتي يوم الدين))[12]، وفي أحاديث أخرى وصف ابن جدعان بأنه كان: ((ينحر الكوماء[13]، وكان يحلب على الماء، وكان يكرم الجار، وكان يقري الضيف، وكان يصل الرحم، ويصدق الحديث، ويوفي بالذمة، ويفك العاني، ويطعم الطعام، ويؤدي الأمانة))، ولكن قد فاته الأوان في أن يقرر أن يكون في طريق الله تعالى، فلم ينفعه كل ذلك.
ومثله كان حاتم الطائي سيد قبيلة طيِّئ وكريمها، اشتهر بالكرم وتحدثت الناس عن كرمه بما لا يصدقه العقل، ولم ينفعه كل ذلك، فقد فاته الأوان؛ فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: ((قلت: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم، وكان يفعل ويفعل، قال: إن أباك أراد أمرًا فأدركه؛ يعني: الذكر))[14]، فلم يكن حاتم الطائي يريد وجه الله تعالى بكرمه، إنما أراد أن يذيع صيته وقد حصل.
هنا إشارة واضحة في أن فرصتنا قائمة عندما ننتفض لله تعالى؛ لنعيد ترتيب أمورنا في هذا المضمار، أما بقاؤنا في ميدان السباق من أجل الدنيا فسنخسر بالتأكيد؛ فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بشِّر أمتي بالسناء والرفعة والتمكين في البلاد، ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة، فمن طلب الدنيا بعمل الآخرة، لم يكن له في الآخرة من نصيب))[15].
فهل فاتنا الأوان؟ أليس من العقل أن نبادر قبل أن يفوتنا الأوان؟
.alukah