في خطوة جريئة ونادرة في الدراما العربية، يسلّط مسلسل «لام شمسية» (dmc، وWATCHIT، و«شاهد») الضوء على قضية التحرّش بالأطفال، كاشفاً تعقيداتها النفسية والاجتماعية وتأثيرها في الضحايا والمحيطين بهم.
يجمع «لام شمسية» مجدداً بين الكاتبة مريم نعوم والمخرج كريم الشناوي، في تعاون درامي يحمل بصماتهما المعتادة في تناول المواضيع الاجتماعية الحساسة والشائكة بعمق وواقعية شديدَيْن. فبعد نجاحهما في «الهرشة السابعة» في رمضان الماضي، ها هو الثنائي يواصل الغوص في العلاقات الإنسانية وتعقيداتها، لكن هذه المرة من زاوية تكسر محظورات اجتماعية وثقافية.
في هذا العمل المؤلف من 15 حلقة، تواصل نعوم رسم عوالم درامية واقعية متعمّقة في التحليل النفسي، فيما يترجم الشناوي هذه الرؤية بصرياً بأسلوب يجمع بين التوتر والواقعية، ناهيك عن الموسيقى التصويرية والأغاني الجذابة وبوسترات الشخصيات وبداية الحلقات. لا يكتفي المسلسل بطرح الـ «بيدوفيليا»، بل يغوص في تداخلاتها النفسية والمجتمعية، مسلطاً الضوء على «يوسف» (علي البيلي)، الطفل الذي يجد نفسه محاصراً في دائرة من الصمت، بينما تتجاهل عائلته، باستثناء زوجة والده «نيللي» (أمينة خليل)، إشارات استغاثته غير المنطوقة.
تتسارع الأحداث بعدما تلاحظ «نيللي» تغيرات واضحة في سلوك «يوسف»، ما يدفعها إلى الاستماتة لكشف الحقيقة في مجتمع يغض الطرف عن جرائم تقع ضمن خانة «التابوهات»، خصوصاً إذا كان الفاعل من الدائرة المقربة. في المقابل، يظهر «طارق» (أحمد السعدني) كأب غائب، منشغل بحياته المهنية وعلاقته العاطفية، تاركاً ابنه في عزلة عاطفية تجعله هدفاً سهلاً لصديق عمره «وسام» (محمد شاهين). إنكاره للحقيقة لا يعفيه من المسؤولية، بل يعمق الهوة بينه وبين ابنه، ما يدفع بالأحداث إلى تصعيد درامي مكثف يكشف هشاشة الروابط الأسرية عند مواجهة الأزمات في مجتمعات ترزح تحت وطأة «العيب».
أما «وسام»، فـ «وحش» في ثوب «حمل»، يمارس سطوته على «يوسف» متلاعباً به وبمشاعره ومستغلاً براءته، وهو ينسحب على زوجته «رباب» (يسرا اللوزي) أيضاً. تبدو الأخيرة غارقة في اكتئاب حاد وتخضع لعلاج غير مناسب لحالتها بسبب تدخلات زوجها المستمرّة في رحلة الشفاء. يتضح تدريجياً أنّ «رباب» على دراية بأفعال زوجها، لكنها تظل أسيرة تحكّمه، في انعكاس للعلاقات القائمة على الخضوع والخوف.
يقدّم «لام شمسية» صورة مؤلمة لصمت الضحايا ولمجتمع يمعن في جلد نفسه، مجسّداً معاناة «يوسف» الذي يستحيل من شخصية مضطربة ذات نظرات شاردة، فيما يغرق في صمت مطبق وقلق لا يفارقه. أمام هذه التفاصيل الدقيقة في تطوّر الشخصيات وتصاعد الحبكة وتشارك الخطوط الدرامية، يجد المشاهد نفسه أمام مشاهد تثقل صدره وتخنق أنفاسه، عاكسةً جرائم ترتكب في الخفاء بينما يظل المجتمع غافلاً أو متواطئاً بصمت.
بعيداً عن المباشرة وعن طريق الأداء التمثيلي واللغة البصرية، ينقل «لا شمسية» لحظات الرعب بأمانة. هنا، يبرز أداء الطفل علي البيلي كمفاجأة درامية. فرغم صغر سنه، ينجح في تجسيد هشاشة «يوسف» عبر لغة جسده، ونظراته التائهة، وتوتره الدائم، مقدماً أداءً صادقاً أضاف عمقاً للمأساة.
يركّز المسلسل على الدور الذي تلعبه العائلة، سواء عن قصد أو من دون وعي، في تعميق معاناة الضحايا. بين الثقة العمياء والإنكار غير المباشر، يجد «يوسف» نفسه محاصراً في بيئة تتجاهل إشارات استغاثته، ما عدا «نيللي» التي تحمّلت قسوة المحيطين فيها والمجتمع بسبب إصرارها على حماية طفل اعتبرته ابناً لها.
يلعب أحمد السعدني دور «طارق» بإتقان؛ الأب الغائب عاطفياً عن حياة ابنه. يجسد الشخصية بمزيج من الهدوء الظاهري والعجز الداخلي، ما يعكس حالة الإنكار التي يعيشها، والتي تجعله غير قادر على رؤية الحقيقة حتى عندما تكون أمامه. أداء السعدني يبدو مدروساً، فهو لا يبالغ في التعبير عن المشاعر، بل يعتمد على لغة الجسد وحركة العينين لتقديم شخصية الأب الذي يفضل العيش في منطقته الآمنة، بدلاً من مواجهة الواقع، مهما كان الثمن!
أما أمينة خليل، فتقدّم لنا «نيللي» بحساسية وصدق كبيرَيْن، عبر أداء مصقول بأدوات ومهارات تمثيلية لعلّها تبرز للمرة الأولى بهذا الوضوح، لتجسيد التوتّر والترقّب والظلم. تورّط «نيللي» المشاهد معها في رحلة البحث عن الحقيقة، لينغمس في لحظات مؤثرة جداً، خصوصاً عندما تحاول إقناع «طارق» بخطورة الوضع، فتُظهر مزيجاً من الإحباط والغضب والخوف بعيداً من الافتعال. فهي ليست مجرّد زوجة أب حنون، بل نكتشف بمرور الوقت أنّ ما تعرّض له «يوسف» أيقظ فيها كابوساً مدفوناً منذ سنوات.
يكسر «لام شمسية» صورة المعتدي النمطية. فهو ليس شخصاً مريباً أو منعزلاً، بل صديق العائلة الموثوق والمهذّب وكاتم أسرارها. يتألّق محمد شاهين في تجسيد شخصية «وسام»، مقدّماً أداءً مقلقاً ببروده وثقته المفرطة. يعتمد على لغة جسده لإظهار شخصية تبعث على الرعب بلا تكلّف. «وسام» ليس مجرد معتدٍ، بل متلاعب بارع، يستخدم اللطف الظاهري للسيطرة على ضحاياه، لا سيّما الصغار منهم. قدرته على التحوّل السلس بين الطيبة الزائفة والسطوة الإجرامية تجعله أحد أكثر عناصر العمل قوة وتأثيراً.
ضمن الشخصيات اللافتة في «لام شمسية»، يبرز دور المعالج النفسي الذي يجسده علي قاسم بدقة وحرفية. ترسم الشخصية خطاً حساساً ورئيسياً في السرد الدرامي. فالمعالج النفسي هنا ليس مجرد مستمع، بل هو مرآة تعكس معاناة الضحايا وتساعدهم على تفكيك صدماتهم في سبيل التغلّب عليها، من دون أن يسمح لمشاعره الشخصية بالدخول على خطّ الجلسات. في هذا الإطار، تتجلّى قوة أداء قاسم الذي ينجح في نقل صورة الطبيب المختص الذي يملك حساسية إنسانية عالية، لكنه في الوقت نفسه يحافظ على رباطة جأشه وموضوعيته.
لا يسعى المسلسل المؤجلّ منذ خمسة أعوام إلى إثارة الجدل بقدر ما يدعو إلى التأمّل، مقدّماً معالجة نفسية واجتماعية تتجاوز حدود السرد الدرامي إلى مساءلة عميقة لدور العائلة والمجتمع في حماية الأطفال من المفترسين، خصوصاً المقرّبين منهم. هكذا، يكسر العمل حاجز الصمت، ويجبر المشاهد على مواجهة الأسئلة الصعبة: كم من «يوسف» يعاني في الخفاء؟ وكم من «وسام» يختبئ خلف قناع الثقة؟ بعد «لام شمسية»، لم يعد التجاهل ممكناً، ولم يعد الصمت مبرّراً!