لا تحتاج الدراما دائماً إلى صراعات كبرى أو حبكات معقدة لتترك أثراً. في أحيانٍ كثيرة، تكمن قوتها في التقاط اللحظات اليومية وتحويلها إلى مشاهد تنبض بالحياة. منذ موسمه الأول (رمضان 2023)، اعتمد مسلسل "كامل العدد" هذا النهج، ابتعد عن الإثارة المصطنعة، وركز على مواقف قد تبدو مألوفة، لكنها تحمل في طياتها عمقاً إنسانياً حقيقياً. هنا، يصبح اليومي جوهر السرد، والمساحة التي تتكشف فيها المشاعر والعلاقات بكل ما تحمله من تعقيد وصدق. بدلاً من التركيز على الأحداث الصادمة، يسير المسلسل بإيقاع هادئ، مستعرضاً التحديات الأسرية التي يواجهها زوجان، لكل منهما أبناء من زيجات سابقة، محتفياً بتفاصيل قد تبدو بسيطة، لكنها في الواقع تشكّل نسيج العلاقات الإنسانية. النجاح الكبير الذي حققه العمل في جزأيه السابقين شجع صنّاعه، رنا أبو الريش ويسر طاهر في الكتابة وخالد الحلفاوي في الإخراج، على المضيّ قدماً وتقديم جزء ثالث بعنوان "كامل العدد ++"، مكون من 15 حلقة عُرضت في النصف الأول من رمضان. يركز الموسم الجديد على موضوعات المراهقة، وبدايات اكتشاف الذات، والتخبطات التي ترافق هذه المرحلة. فنتابع تطور العلاقة بين ليلى (دينا الشربيني) وأحمد (شريف سلامة) من خلال تفاعلهما مع أبنائهما. تتجلى الفجوة بين جيلين وتظهر التباينات ليس فقط في المفاهيم والقيم، بل أيضاً في أسلوب التعبير ولغة الحوار. المساحة الغنية بالصراع بين الأجيال تمنح هذا الجزء جاذبيته، حيث يطرح تساؤلات حول التربية والشكل الحديث للعلاقات واختلاف المفاهيم بين الآباء والأبناء. ترك غياب إنجي (جيهان الشماشرجي) وزوزو (آية سماحة) فراغاً واضحاً في السرد، خاصة أنهما قدما منذ البداية نموذجاً مغايراً للمرأة المستقلة، بعيداً عن التنميط المعتاد والأحكام الجاهزة. علاقاتهما العاطفية، رغم تعقيداتها، عكست بواقعية تقلبات المشاعر والتحديات التي تواجهها المرأة في العصر الحالي. في المقابل، لم ينجح النجوم الذين انضموا إلى العمل في هذا الموسم في تعويض هذا الغياب، على عكس الموسم السابق، حيث أضافت فوزية (ميمي جمال) بُعداً كوميدياً وديناميكية ملحوظة. فبدا حضورهم باهتاً، لأنّ خطوطهم الدرامية لم تحمل العمق الكافي لجذب المشاهد أو سد الفجوة التي خلفها الممثلون الغائبون. كما شهدت شخصيات أخرى تحولات غير مبررة، طارق (أحمد جمال سعيد) مثالاً، مما جعل تطورها يبدو مفتعلاً بهدف تصعيد درامي لا يتماشى مع منطق الشخصية. حينما تتعثر الحبكة، يظل أداء الممثلين هو ما يمنح العمل إيقاعه المتماسك. تؤدي دينا الشربيني دور الأم بصدق وعفوية، ورغم بعض المبالغات في المشاهد الكوميدية، فإن عاطفتها في اللحظات الدرامية تترك الأثر الأعمق. أما شريف سلامة، فيجسد ارتباك الأب في مواجهة معضلات المراهقة بمزيج من الحيرة والحب، من دون تكلف أو افتعال. الكيمياء بين أفراد طاقم التمثيل، على اختلاف أجيالهم، تجعل العلاقات أكثر واقعية، مما يضمن للمسلسل استمرار جاذبيته لدى جمهوره.
ما يميز "كامل العدد" هو طابعه الحميمي والدافئ، مما يجعله من المسلسلات اللطيفة والمبهجة التي لا تحتاج إلى أحداث صاخبة لتظل في الذاكرة. سواء شاهدناه لأول مرة أو عدنا إليه مراراً، نرتبط بشخصياته ونتفاعل مع يومياتهم. هذا الارتباط العاطفي يجعل العمل ممتعاً ومؤثراً، يمنحنا جرعة من الحب التي تسري في كل تفاصيله، فنشعر وكأننا جزء من هذه العائلة وحكاياتها التي لا تنتهي.
بتُّ أفضّل هذا النوع من المسلسلات التي تحمل جوًّا دافئًا يدمج بين الكوميديا الخفيفة واللحظات الدراميّة الصادقة (على نمط موضوع عائلي)، نضحك في لحظات، وتدمع عيننا في لحظات أخرى.
ربما مع تقدم السن، بدأت أبتعد عن جو المسلسلات الأخرى التي كنت أحبها سابقًا المليئة بالأكشن والصراخ والنكد وحتى ذات العمق الفلسفي، وأنجذب إلى هذه النوعيّة من المسلسلات الخفيفة اللطيفة :)
