الفقر، ماذا يفعل بالإنسان، وخصوصاً في عالم غير عادل مشرّع على خراب الحرب، ومحكوم بتجّارها وقوانينهم المهتمة بالمال فقط؟ هل يمكن للفقر أن يبرّر التحولات الكبرى في المنظومة الأخلاقية لدى الناس؟ هل يمكن للتحول من رجل قانون إلى رجل جريمة أن يكون ضمن مبدأ النجاة أم هو محاولة من محاولات إثبات الذات في عالم غير منصف؟
يناقش مسلسل «تحت سابع أرض» هذه الأسئلة ضمن أكبر إنتاج في الدراما السورية في رمضان 2025، كما هي العادة في ثنائية الممثل تيم حسن والمخرج سامر برقاوي.
ومع دخول الكاتب عمر أبو سعدة إلى الفريق قبل ثلاث سنوات، أعاد حسن وبرقاوي إلى الدراما السورية بعد الغرق في أجزاء «الهيبة».
قدم أبو سعدة نصوصاً مهمة في المواسم الماضية من «الزند» الذي يتناول مدة الحرب العالمية الأولى، وبعدها مسلسل «تاج» الذي يتناول حقبة الحرب العالمية الثانية، فيما كانت سوريا مركز الأحداث في كلا المسلسلين.
وها هو يعود في هذا الموسم ليقدم نصاً معاصراً تدور أحداثه في مرحلة ما بعد الحرب السورية، التي حكم فيها الخراب والجريمة والفساد. إنّها المرحلة التي مات فيها أي أمل بالنجاة أو أي مسار لتحقيق العدالة، فيما أصبحت النجاة الفردية فقط هي الحلّ، وقد تبرر أي فعل بسبب فظاعة الحرب التي مرّت على البلاد.
تدور أحداث المسلسل حول ضابط في الأمن الجنائي موسى الناجي (تيم حسن)، الضابط الشريف المظلوم عبر سنوات خدمته.
يبدأ الحدث الرئيسي عندما يكتشف تورّط شقيقه زين (أنس طيارة) ورنا (رهام قصار) مع عصابة تزوير عملات أجنبية. ومن إيمانه بعدم العدالة في البلاد، يقرّر حمايتهما بطريقته الخاصة، لكنه سرعان ما يحتاج إلى مبلغ كبير لكي يعالج أخاه زين بعد تعرضه لحادث سير. هكذا يتورّط هو نفسه في التزوير وبيع العملات وتحصيل الأرباح، ويستخدم نفوذه وسلطته لكي يحمي عمله وعائلته وعصابته.
تتمظهر أشكال الصراع في الحكاية أولاً على صعيد نفسي عند الشخصيات، وخصوصاً موسى الذي يعيش صراعاً ما بين حياته السابقة ومعتقداته ومبادئه، وما بين حاضره الذي دفعه نحو عالم الجريمة الذي بدأ يحقق له شيئاً من العدالة التي كان يبحث عنها.
يظهر هذا الصراع بشكله المباشر في صراع ثنائي البُعد: الأول صراع موسى وأخويه مع منير العجان (تيسير إدريس) تاجر العملة الذي كان يستغلهم ويريد كل الأرباح له وحده. والثاني مع الضابط فجر (جوان الخضر)، المسؤول عن ملف تزوير العملة الذي سرعان ما يشكّ بالضابط موسى بسبب أفعاله غير المتوازنة والأحداث الغريبة.
وقد عبّر هذا الصراع بأبعاده عن الصراع النفسي عند موسى ما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار. والنتيجة حبكة قوية ومشوقة تنقلنا بين عوالم مختلفة وأهدافها المتصارعة، خالقةً منعطفات درامية غير متوقعة في الحكاية، ما يولّد علاقة تلقي ممتعة.
طبعاً، لا يمكن تقديم حكاية قوية إلا إذا كانت الشخصيات متقنة الصناعة أيضاً، وهذا كان حاضراً في شخصيات «تحت سابع أرض» التي تثير جدلاً في ما يتعلق بخياراتها ومواقفها وتحولاتها.
نشاهد مثلاً تحول موسى البطيء من شخص مجبر على حماية عائلته، إلى مجرم محترف يستعد لقتل كل من يقف في طريقه. نلاحظ بهدوء التحولات في وجهة نظره تجاه العمل من كاره له إلى معجب به يحقّق به ذاته، وخصوصاً أنه تورط أيضاً في علاقة حب مع بلقيس (كاريس بشار) التي تعمل على غسيل الأموال، فعلاقة الحب هذه تقوّي ارتباطه بالعالم الجديد الذي دخله، فأصبح يرى فيه مستقبلاً أكثر ما يراه فرصة للنجاة.
وهذا التورط يظهر في سلوكه عندما يقتل أناساً أبرياء ويحبس شاباً جامعياً لكي يحمي أخاه، فنرى تحولاً في هدف الشخصية ورغبتها وطريقة تحقيق هذه الرغبة، وأثر عالم الجريمة الذي قد يقدم للشخصية عدالةً من نوع ما، لكنه سيغرقها في عنف لا ينتهي.
تظهر هذه الخصوصية والأبعاد الجدلية في كل الشخصيات، وخصوصاً مع أقطاب الصراع، فنرى منير العجان الشرير المطلق الذي يسعى إلى المال على حساب أي شخص، يحمل بُعداً آخر في شخصيته يتجلى في ماضيه الفقير الذي قد يبرّر سعيه وراء المال، ونرى ضعفه الذي يتجلى في ابنه الذي يعاني من حالة عصابية، وأمه العالقة ذهنياً في الماضي، الذي يحاول أن ينساه بشتى الطرق.
وكذلك، نرى أنّ سعي الضابط فجر إلى تحقيق العدالة وإلقاء القبض على الجريمة وعلى موسى، ما هو إلا رغبة في الانتقام لابن أخته الضابط نزار (بيدروس برصوميان)، فيصبح سعيه عصبياً انتقامياً أكثر منه عقلانياً ومتزناً كما يفترض به أن يكون. تفاعل هذه الشخصيات برغباتها المتناقضة مع العالم غير العادل، هو محرّك الأحداث الرئيسي الذي يقدّم نماذج كثيرة للاعدالة وآثار الفقر ومفرزات الحرب على الناس.
نرى نموذج الشاب زين الرسام الموهوب الذي لم يجد طريقاً لموهبته إلا في تزوير العملة، وهذا يدخله في خيارات حيوية تجعله يكره ذاته ويكره العالم.
ويوجد الشاب مياس الذي يتورط في قضية مخدرات وتنتهي حياته الجامعية ويدخل عالم الجريمة في السجن لكي يحمي ذاته، والشابة راما التي تتوجه إلى خيار تطبيقات اللايف لكي تسند عائلتها.
ولعل أوضح عالم عمّا نتحدث عنه هو عالم دلال خانوم (منى واصف): إنّه عالم المنبوذين الذين يفرضون منظومتهم الأخلاقية الخاصة القائمة على حماية بعضهم، فالخانوم هي القطب الآخر من تجّار العملة التي يتوجه إليها موسى لكي يصرّف بضاعته، وهي التي ترعى أطفال الشوارع، فنرى في هذا العالم الحقيقة بتجريدها.
نرى جيل الحرب الذي ولد في الشارع بلا أمل، وعالم الجريمة هو مصيره الحتمي. ورغم هذا، يبدو هؤلاء في المسلسل الأكثر إنسانية وظلماً، ويعبّر الخيار المكاني لفضاء الخانوم وأطفالها تماماً عن علاقة هؤلاء الأطفال بالعالم، وهي الأماكن المدمّرة جراء القصف، عالم الخراب المكاني الذي ينعكس على الخراب الذاتي، ولكنه يخلق بُعداً إنسانياً مفقوداً عن باقي عوالم المسلسل.
يقدم المسلسل عوالم غنية ومعقدة وحقيقية، يدخلنا إلى عالم الجريمة والفقر والخيارات الجدلية... إنّه عالم يشبه عالم مسلسل Breaking Bad الذي يدخلنا في جدل أخلاقي يتعلق بسؤال الجريمة، كما يُظهر لنا التحول الجوهري في الشخصيات الذي يصبح خطأ تراجيدياً يؤدي إلى الهلاك.
وقد تكاملت عوالم الشخصيات وصراعاتها مع إخراج متقن يقدم دراما التشويق والأكشن، كما يجب الإشارة إلى الأداء الجيد عند كل الشخصيات، الذي عبّر بطريقة بشرية عن الصراعات الأخلاقية والتحولات، التي ظهرت في السلوك ولغات الجسد، مثل شخصية مهيب الذي لعبها مجد فضة. قدم الأخير شخصية معقدة ومقنعة تنتمي إلى عالم خاص مليء بالمشروب والمخدرات والشعور بالذنب وتعلقه بالحب والمال.
بنى فضة كاركتير المختلّ بطريقة مضبوطة ومقنعة. وأخيراً يمكننا الحديث عن أداء تيم حسن الذي يهتمّ دوماً بكل تفاصيل الشخصية من لغة الجسد، إلى التعبير اللغوي والانفعالي.
إلا أنه كرّس نمطاً أصبح خاصاً بتيم حسن، كأنّ هناك وصفة جاهزة يجب أن يقدمها تيم حسن لكل شخصية يلعبها، وهي كلماته الخاصة وطريقته في الشتم، وطريقته الخاصة في الضرب، وهذا قد أوقعه في فخ نمطيته الخاصة في طريقة عمله على الشخصية، ما جعل أداءه في بعض الحلقات أقل جودة من أداء باقي الممثلين مثل أنس طيارة أو مجد فضة أو منى واصف أو كاريس بشار، فلم نعد نرى خصوصية في الشخصيات التي يلعبها حسن، بل هناك قالب جاهز يضع فيه كل شخصية يلعبها.
ولعل هذا بسبب عمله الطويل مع مخرج واحد، وقد تم التصريح في بداية رمضان، بأن هذا المسلسل هو نهاية الشراكة بين تم حسن وسامر برقاوي بسبب اقتناعهما بأنهما يريدان البحث عن شيء جديد يدفع بتجاربهما الفنية إلى الأمام.
