الأرض والفضاء
ومن المثير للدهشة أن هذه الفرضية على جانب كبير من الصواب فقد صار من المعلوم أن نبعان المحيطات والبحار، مثلما هو الأمر فوق اليابسة تشتمل على نوعيات مختلفة من الصخور النارية والتي تشكل من الصخور البازلنية البركانية التي تحتوي على نسب متفاوتة من الأملاح والتي قد تتعرض إلى التحلل وتؤدي إلى تركيز ما تحتويه من الأملاح في مياه المحيطات والبحار اما الإشارة إلى تأثير التربة التي يكون ماء البحر على طعمها فمن الممكن انه كان يشير إلى تأثير ما تنقله المجاري المائية من رسوبيات تصبها في المحيطات والبحار عند مصبها
لكن ما يثير الاهتمام بتمثل في أن بانوت الحموي قد أكد على حقيقة هامة تم استكشانها في القرنين الأخيرين وهی ان مياه البحار والمحيطات كانت في بادئ الأمر عذبة وان طعمها قد تغير بالنظر إلى ارتفاع ملوحتها على طول العصور والأحقاب الجيولوجية بسبب العوامل التي اشرنا إليها فيما سبق من ناحية أخرى فقد انتبه علماء العرب والمسلمين إلى دور المجاری المائية في نقل الصخور والرواسب الصخرية من مواقعها الأصلية لترسيبها في مواقع اخرى
وبصفة خاصة عند مصباتها على هيئة غرين وانها أثناء تلك العملية تساهم في عملية التعرية والتجوية للبيئة التي تمر بها وحول هذا الموضوع اشار العالم ابن سينا في كتابه الشفاء عند حديثه عن موضوع المعادن والآثار العلوية بقوله و اما عروق الطين الموجودة في الجبال فيجوز ان نكون تلك العروق ليست من صميم مادة التحجر ولكنها من جملة ما تفنت من الجبال ونترب وامنة في الأودية والفجاج وسالت عليه المياه ورطبنه وغشينه إرهاص الجبال او خلطت به طبتها الجيدة
فمن الأبحاث الجيولوجية الحديثة امكن وضع نصور عن دورة المياه فوق سطح الأرض وقد اتضح منها تأثير المياه کاحد عوامل التجوية والتعرية من خلال انتزاع الفتاتيات الصخرية من مواقعها الأصلية وتنقلها اثناء جریانها اما عن طريق الإذابة إن كانت قابلة للذوبان او عن طريق النقل كمواد عالقة إذا كان سرعة المباه نادرة على حملها او عن طريق الدحرجة إذا كانت المياه غير قادرة على حملها وتلعب المسافة التي نقطعها تلك المجاري المائية دورا هاما على شكل الفتاتيات الصخرية لما يفعله الاحتكاك الناجم عن عملية الدحرجة على إشكالها
فإذا كانت المسافة التي تقطعها المجاري المائية نصيرة فان تلك الفتانبات المتدحرجة بوجه خاص تكون ذات اطراف مدببة، أما إذا كانت المسافة التي تقطعها المجاري المائية طويلة فان تلك الفتاتيات تكون ناعمة الأطراف وقد يتضاءل حجم تلك الفتاتيات كلما طالت المسافة فتحول إلى نتانیات ناعمة جدا او فائقة النعومة لنمبر آخر الأمر مواد شبه طبنية تترسب عند المصبات بصورة غرين لقد اوضح ابن سينا هذه الحقيقة في كتابه الشفاء باعتبار أن عروق الطين الموجودة في الجبال فانه من الممكن ان تكون منقولة وليست من صميم تلك الجبال و إنما هي ناجمة عن عمليات تفتيت للجبال التي تمر بها
من ناحية اخرى حاول ابن سينا في كتابه الشفاء نحت باب الآثار العلوية تفسير سبب ملوحة مياه البحر بقوله فإذا كانت ملوحة البحر لهذه العلة ولغاية حفظ مائه عن الأجون بقصد تغير الطعم واللون والرائحة ولولاه لأجن وانتشر فساد اجونه في الأرض واحدث الوباء العام على ان ماء البحر باجن إذا خرج من البحر ايضا وإنا بنحفظ بعضه مجاورة بعض ويمدد التمليح وهنا نلاحظ ان ابن سينا أشار إلى إضافة الرواسب التي تؤدي إلى ملوحة البحر بانها مدد التمليح وانه لولا وجود تلك الأملاح في مياه البحار لفسد هذا الماء وان وجود تلك الأملاح اعتبرها حائلا دون فساد او تغير طعم ولون ورائحة تلك المياه مؤكدا إلى أن مياه البحر يفسد طعمها ولونها ورائحتها إذا حفظت بعبدا عن البحر عدم ثبات الأرض وتغييرها لمواقعها
لقد اثبت علماء الجيولوجيا في القرن العشرين أن الأرض تتحرك تغير مواقعها خلال تاريخها الجيولوجي، وان بحار اليوم ليست هي بحار الأحقاب السحبقة من التاريخ الجيولوجي، فمثلا كان البحر المتوسط بنمر کامل القارة الإفريقية تقريبا تحت اسم بر تيطس في العصور الجيولوجية المبكرة وان هذا البحر اخذ يتراجع تدريجيا عبر تاريخ الأرض الجيولوجي من جهة وان القارات كانت تبدل مواقعها من موقع إلى آخر الأمر الذي أدى إلى انغلاق بحارا وانفتاح بحار اخرى لأكثر من مرة وظهور بحار جديدة واختفاء أخرى
وبطبيعة الحال فان تلك البحار القديمة المندثرة او تلك البحار الجديدة كانت نستمد الكثير من الرواسب من المجاري المائية التي تصب فيها تلك الرواسب ومن المثير إلى الانتباه ان ابن سينا أشار أيضا إلى عملية انتقال البحار من موقع إلى آخر عبر التاريخ الجيولوجي للأرض فيقول في كتابه الشفاء ما يلي و اما اختصاص البحر في طباعه بموضع دون موضع فامر غير واجب بل الحق أن البحر ينتقل في مدد لا يضبطها الأعمار ولا توارث فيها التواريخ والآثار المنقولة من قرن إلى فرن إلا في أطراف يسيرة وجزائر صغيرة لان البحر لا محالة مستمد من انهار وعيون تفيض إليه
وبها قوامه ويبعد أن يكون تحت البحر عيون و منابع هي التي تحفظه دون الأنهار وذلك لأنها لو كانت لوجب أن يكثر عددها جدا وان لا تخفى على ركاب البحر بل إنما تسنحفظ البحار بالأنهار التي نصبها من نواحي مشرفة عالة بالقياس إلى البحر وليس هناك من شك في أن ابن سينا قد عبر بصورة واضحة عن تكوين البحار وانتقالها من مواقعها عن طريق التقدم والانحسار عبر تاريخ الأرض الجيولوجي وان الأنهار والمجاري المائية الأخرى التي تصب فيها نعنبر احد المصادر الهامة لمباهه وسبب ملوحته
كم أن القزوینی کتب حول نفس الموضوع في كتابه آثار البلاد واخبار العباد بقوله أما المالح يقصد من مياه البحار فملوحه من الأجزاء الأرضية السبخة التي احترنت من تأثير الشمس واختلطت بالمياه وجعلتها ملحة فلو بقيت على عذبتها لتغيرت من تأثير الشمس وكثرة الوقوف لان من شان الماء العذب ان بنتن من كثرة الوقوف وتاثير الشمس فيه ولو كان كذلك لسارت الرياح نتنة إلى أطراف الأرض نادی به إلى فساد الهواء الذي يسمى طاعونا نمار سبا الفساد الحيوان فاقتضت الحكمة الإلهية ان يكون ماء البحر مالحا لدفع هذا الفساد ومن فوائد الماء المالح الدر والعنبر والمرجان وانواع ما يؤنى بها من البحار.