

رواية : أنت وطني - بقلمي
الفصل السادس
استيقظت باكرا في الصباح وذهبت في طريقي المعتادة عند الطبيب ودخلت لما حان دوري ، وجدته طبيبا كأي طبيب يعالج مرضاه الذين يترددون عليه
فقال لي : تفضلي آنسة جوليا ، جلست وأنا أنظر إلى الأرض فقال لي وبنبرة فيها شئ من التكلف : لقد أخبرني والدك أنك تدرسين بمعهد الأزياء
والموضة .
أجبته بصوت هادئ وخافت : نعم بمعهد التصميم والأزياء بالضبط
من خلال حديثه بعد ذلك وبعد هذه المقدمة انتابني خوف من حديثه حين سمعته يقول أنه سيكمل من حيث انتهى الطبيب الأول وسيتابع معي ما بدأه
الدكتور الذي كان مشرفا على علاجي الكيميائي، درفت دموعا كثيرة وقلت : هل سيتساقط شعري ؟
الطبيب : لا تبكي ، يجب عليك أن تكوني شجاعة ، قصيه منه وربما سيتساقط قليلا
أمسح دموعي : هذا ما كنت أفكر فيه
خرجت من المستشفى وأنا تائهة بين أفكاري ، يائسة كئيبة أفكر ما ستؤول إليه أحوالي، تمنيت للحظة الموت ، ولكني طردت هذه الفكرة ، وتذكرت
المركز الذي سأكون فيه ، مسحت دموعي وقررت بعد ذلك مغادرة منزل جدتي، كنت أعلم أنها ستصدم لهذا القرار خاصة وأنها اعتادت على وجودي
معها ، جمعت ملابسي ووضعتها في حقيبتي وذهبت بسرعة دون أن ألتفت إلى الوراء.
وجدت بعض المنازل الصغيرة المخصصة للكراء وقررت مع نفسي أن أعيش المدة المتبقية لي في الحياة كما قيل لي ، كنت دائما أجد دموعي تنهمر
بسرعة وبدون توقف ، كان هذا حالي كما هي العادة، لأني كنت أتأسف كثيرا لعدم تمكني من إتمام دراستي في معهد التصميم والأزياء.
قصصت شعري لغاية الأذنين واشتريت بعض الأدوية ووضعتها في الدولاب بقرب سريري، خرجت أتجول في المدينة ولم أتخيل أن حياتي ستنتهي عند
هذا الحد، كانت عندي أمنيات كثيرة وكنت أتمنى من أعماقي لو أتيحت لي الفرصة لتحقيقها ولكنها الحياة ، وعلينا أن نتقبل كل ما يحدث بقلب رحب
، وأصعب ما في هذه المرحلة تغير شكلي وما آلت إليه صحتي ، أشعرني ذلك باليأس والإحباط ، كما أنه طوال فترة علاجي كنت كأي مريض أخاف
من نظرة الناس إلي والتي لا ترحم ، إذ في كل لحظة أقابل شخصا ما أفكر مباشرة إن كان تفكيره سيقوده إلى أني مصابة بمرض السرطان ، كان هذا
يؤرقني ويزيد من إحساسي بالألم ومن المعاناة، وما ستكون عليه ردة فعل هذا أو ذاك ، دون أن ننسى أخبار الناس وما يتداولونه في أحاديثهم
المزعجة التي لا نهاية لها عن أخبار الناس وأسرارهم والتي كانت تسبب لي الإكتئاب والإنزعاج لما فيها من تشاؤوم وخوف من المستقبل.
التقيت في طريقي وأنا أتجول بدانيلو خفت وخفق قلبي لمجرد أني رأيته والتقيت به ، كان هذا إحساسي وكان هذا شعوري في غفلة منه ، جاء وسلم
علي وقال لي :
- لقد سألت عنك جدتك وأخبرتني أنك غادرت المنزل دون وجهة معروفة ، بحثت عنك بالمعهد أيضا ولم أجد لك وجود هناك ، وقيل لي أنك لم تعودي
للدراسة ، وبادرني بسؤال عن سبب قص شعري، شعرك الطويل كان يليق بك وكان جميلا بتلك التسريحة التي اعتدت عليها ، أين ذهب الشعر
الطويل ؟
أجبته دون مبالاة : لم تعد لي حاجة للشعر الطويل ، ذهبت دون أن أودعه أو ألتمس لي عذرا عنده في الذهاب ،جاء يجري من ورائي وقال بكل لطف
وأدب : ألن تخبريني بعنوانك ومقر سكناك ؟
- حسنا ما دمت مصرا في معرفة عنواني تفضل معي وستعرفه ، أدخلته منزلي وحضرت له كأس شاي وبعض الحلويات التي اشتريتها في طريقي عند
عودتي معه ، ذهبت وألقيت بجسدي المتعب على الفراش ولا أذكر كم مر علي من الوقت وأنا ملقاة على الفراش إلى أن سمعت الباب قد أغلق فعرفت
بحدسي أن دانيلو قد ذهب دو أن يوقظني عطفا منه علي ، وكأني به عرف معاناة جسدي.
فكرت مع نفسي وقلت أنه من الأفضل لي أن أتجاهله مستقبلا وأن لا أعطيه أملا قد يكون كاذبا ، لأني أنا المعنية بهذا وأملي في الحياة ضئيل ، وقتها
أجهشت بالبكاء وأنا أحدق في وجهي النحيف في المرآة ، لقد تغيرت ملامحه وتغيرت تقاسيمه وبالتالي تغيرت أنا ولم أعد تلك الفتاة الجميلة التي كنت
من قبل ، أصبحت منهارة القوى وأصبحت فاقدة التفكير في أي شي ، فكري للأسف أصبح منصبا على كلمة الموت ، هذا الموت الذي جعل النهاية
لحياتي.
في صباح اليوم الموالي استيقضت باكرا وكأني على غير عادتي وجدت بعض القوى تدفعني للقراءة ، وبدأت أقرأ رواية اجتماعية ، وما أن قرأت بعض
الصفحات حتى سمعت جرس الباب يرن، كان الحارس وكان بيده إكليلا من الورود ، عبارة عن باقة مختارة وجميلة أعادت إلي بعض الروح وقال
لي :
- تفضلي إنها هدية من أحدهم
أخذتها وشكرته عن تعبه وتنقله لغاية منزلي ، وجدت ورقة مكتوب عليها بداخل الباقة : '' إلى صاحبة الشعر الذهبي الجميل والمسترسل تفضلي بقبول
باقة الورد هاته يا حلوة ''
ابتسمت وأنا ألمس شعري القصير ، فسقطت دمعة من عيني رغما عني ولم أتمكن من حبسها
وضعت الورود في المزهرية قرب سريري ونمت نوما عميقا لم أر فيه أحلاما مزعجة .
لن أخضع للعلاج الكيمائي، ولن يتساقط شعري ، سأكتفي بالأقراص للتخفيف عن آلام الحنجرة ، ومع أخذ الدواء سأستمر في التدخين بين الفينة
والأخرى ولن أتوقف عنه ، لأنه لم يعد يهمني أي شئ ، فحياتي إلى زوال ولا داعي لتنفيذ أوامر الطبيب ، لأني هالكة لا محالة.
خرجت في الصباح كي أتجول قرب البحر وأشم رائحة اليود وأستنشق هواءه وعندما عدت وجدت دانيلو ينتظرني عند الباب وهو يحمل بين يديه هدية
كبيرة ، ابتسم وقال لي : أحضرت لك شيئا سيسعدك ، دخلنا المنزل فقال لي : إنها آلة غسيل الأواني ، كم تمنيت أن تكون لك يوما ، شهقت فرحة.
- آه صحيح يا إلهي لقد جلبتها إلي إذن
- نعم لكي لا تتعبي يديك
كان دانيلو يحس بمرضي بالرغم من أنني لم أخبره الحقيقة، وكان يأتي كل يوم بهدية ، أهداني الكثير ، وكأني به يريد أن يخفف من ألمي ومعاناتي من
المرض الذي أتحمله وحدي في صمت . أحيانا كان يطوق عنقي بعقد من الحجر الرفيع وأحيانا خزانة ووأخرى ملابس جديدة وثلاجة.
توطدت علاقتي به فلم أعد أستطيع قضاء يوم دون أن أراه، والذي جعلني أفرح وأفكر في العلاج هو قوله في إحدى المناسبات : '' أحقا تريدين أن
تصبحي مصممة أزياء ؟ ''
همست له بالإيجاب غير أنني لم أستطع أن أقول أكثر
- لا عليك أنا من سيعلمك ، تعلمت المبادئ ولم يتبق لك سوى القليل، أتذكرين عندما كنت تعلمينني ؟ لقد جاء دوري الآن.
ابتسمت له مجاملة له على كلامه الرقيق وعانقته بدفئ
صباح الغد جاء دانيلو ومعه الأوراق والثوب ، أدخلته إلى المنزل وأعطاني دفتره وقال :
- بما أنك لا تريدين الذهاب إلى المعهد فأنا من سيجلب لك الدروس ، وأشرحهم لك بالتفصيل ، قاطعته :
- كما ترى لا أحب أن يراني أحد على حالتي التي أنا عليها من نحولة واصفرار وجهي ، وأنت تعرف أن المجتمع لا يرحم
- أنت أخبرتني أنك مريضة بالسل
- نعم بالسل وغيرت الموضوع ، إذن هيا نبدأ
- لنبدأ اولا ، ابدئي برسم الفستان الذي سنشتغل عليه
بدأت برسم فستان طويل ولونته بالأزرق ، كان ضيقا من فوق ومن الخاصرة وفضفاض عند الرجلين.
دانيلو لم يتمالك نفسه أمام عملي فصفق لي كثيرا وهو يقول :
- كم أنت مبدعة في الرسم وفي التصميم
ضحكت وأنا في عز فرحي وأنا الخجولة أمام تشجيع دانيلو لي .
- لا تبالغ دانيلو إنها مجرد خربشات
- خربشات ، أتمزحين ؟ إنك جوليا الفتاة الذكية والجميلة والمبدعة
بدأت أقرأ ما كتبه اليوم دانيلو من الدرس ونهضت ووضعت يدي على محيط خاصرتي، والآن ماذا سنفعل ، سنحتاج إلى ماكينة خياطة.
ابتسم وقال :
- غدا سأشتريها لك لكي تتعلمين
- صحيح
شكرته وانا في قمة فرحي فلم أعد أحس بالألم في حنجرتي وبدأت أستعيد شيئا فشيئا صحتي ، ولكنني لا أزال أتناول الأقراص الذي يصفهم لي الطبيب.
مرت عامين على دراسة دانيلو ، أخذ الشهادة ، أما بالنسبة لي ففي خلال العامين تعلمت كل شئ وصممت عشرة فساتين ، في كل عام خمسة ، حتى
أصبحوا عشرة.
طلب مني دانيلو أن أعرضهم على إحدى الشركات ، وهذا ما فعتله ، فجأة جاءني هاتف يخبرني بأن فساتيني قبلت وسوف يتم عرضها قريبا وطلبوا
الحضور إلى مقر الشركة قصد معرفة باقي الأشياء المتعلقة بي.
في الصباح الباكر قمت وهيأت فطورا ليس كباقي الأيام وتفننت في اختيار أجمل فساتيني التي لم يسبق لي أن ارتديتها حتى أكون في قمة أناقتي
وأنوثتي وبالتالي أن أكون مميزة على كل الحضور ، قصدت مكتب مدير الشركة وجلست في قاعة الإنتظار أنتظر دوري في الدخول ، كانت قاعة كبيرة
وبها ملصقات التصاميم متعددة الألوان والأشكال وتفنن أصحابها في إثارة المشاهد، طال انتظاري ، ولكنه لم يضع سدى لأني أشبعت عيناي في هذا الكم
من التصماميم الرائعة التي تسلب العين بجمالها وتميزها ، وفي النهاية جاء دوري ودخلت عند المدير ، قال لي :
إذن أنت هي صاحبة هذه الملابس الرائعة التي قمت بتصميمها ، إنها تحف قيمة ، صدقيني إنها تحف
- قلت له بتواضع ، نعم
- اجلسي جوليا ، هذا لطف وتواضع منك
- المهم الآن أننا نهيئ لحفل عرض أزياء كبير وأنا أعجبت بمهاراتك في تصاميمك
- شكرا لك سيدي هذا من لطفك
- المهم عندي هو حضورك بعد 3 أيام إلى الحفل الذي سننضمه
- كانت كلماتي قليلة معه ، لا أعلم لماذا لم أسترسل في الكلام كعادتي ، لم أعد أستحمل طينة الغرباء عني ، لأني أعلم أن همهم الأول والأخير هو
الشهرة والجاه وهذا لم يعد يهمني بحكم مرضي ، هذا ممكن .
عندما كنت عائدة إلى المنزل وجدت دانيلو ينتظرني عند الباب فقال لي :
- لماذا لم تخبريني بمجيئك ؟
- لم ارد أن أتعبك أو أحرجك ، سأقول لك الصراحة : أنا ليست لدي فكرة عن هؤلاء القوم
- المهم عندنا الآن أننا سنعرض لك تصاميمك وأزياؤك قصد الذهاب للمشاركة والحضور
ذهبنا إلى المنزل وأعددنا الغذاء وبعدها قال لي دانيلو أنا أعرف أنك مريضة ونحيلة بهذه الشدة والهالات السوداء حول عينيك بإمكانك إخباري
بالتفاصيل وأنا بدوري سأساعدك
أخذت أضحك وارتفع صوتي وزاد حتى بدأت أشهق بكاء وقلت له :
- اسمع أنت مجرد صديق لا أقل ولا أكثر ، لا تتدخل في أموري الشخصية وذهبت إلى الغرفة النوم المجاورة وأغلقت علي الباب ، سمعته يدق على
الباب لكنني لم أهتم بذلك.
عقارب الساعة تتسابق فيما بينها وأيهما يصل إلى نقطة البداية أو النهاية ، وساعات الدنيا ستصرخ وقتها معلنة توقف حياة إنسانة لينهش ما بين
أضلعي ، ربما اقتربت نهايتي ، لا محالة ، ذهبت زاحفة إلى علبة الدواء وأخذت الأقراص كي يكف عني الألم الذي اجتاحني فجأة ودون إنذار مسبق
وعلى غير ميعاد أو موعد ودانيلو الفتى الناجح في دراسته الذي ساعدني خلال عامين لا يمكن إنكار جميله ومعروفه غير أنه يريد أن يعرف أكثر ويريد
معرفة مرضي ولن أسمح له وربما يكون قد عرف غير أنه لا يريد أن يخبرني أو قد يكون لا يريد أن يجرحني.
أقيمت حفلة عرض الأزياء الخاصة بي لكنني لم أذهب وكان المدير يهاتفني بين الحين والآخر غير أني لم أجبه ، نهضت وجمعت ملابسي في حقيبتي
وجلست أتحسس أقلامي وأوراقي التي كنت أرسم بها وإذا بي أفتح الباب وأودع كل شئ ، تجاوزت نصف الطريق وإذا بي أسمع أحدا يناديني ، إنه
دانيلو ، نعم إنه صوته ، لم استدر لرؤيته واستقباله وزدت من سرعتي حتى بدأت أجري وأركض ورميت الحقيبة وأنا أجري وأركض ودانيلو من
ورائي يحاول استجماع قوته للحاق بي ، وفي أحدى العقبات سقطت وبدأت أبكي وأنتحب ، وإذا به يصل ويلحق بي ويحاول رفعي من على الأرض
وأدخل معه في عراك بالأيدي طالبة منه أن يتركني ويدعني .
- حسنا اهدئي ، اهدئي لنعرف كيف نتحدث وبعدها نرى
يتبع

|