الباب السابع الإيجاز والإطناب والمساواة
لا يعدو التعبير عن المعاني التي تجول في الذهن، وعن العواطف التي يجيش بها الصدر، طريقا من هذه الطرق الثلاث:
الإيجاز، والإطناب، والمساواة. وسنبحث كلّ طريق بحثا منفصلا.
أوّلا: الإيجاز:
1 - 1. تعريفه:
عرّفه الجرجاني بقوله (1): «أداء المقصود بأقلّ من العبارة المتعارفة».
وعرّفه معجم المصطلحات العربية بقوله (2): «هو التعبير عن المعاني الكثيرة باللفظ القليل».
وعلينا ان ندرك ان الإيجاز لغة يفيد التقّصير، وأنّه في الاصطلاح يعني: اندراج المعاني الكثيرة تحت اللفظ القليل.
وقد رأى البلاغيون ان الألفاظ القليلة فيه يجب أن تفي بالمراد مع الإبانة والإفصاح وتناسقها مع حال المخاطب.
مثاله، قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الأعراف: 199. فلقد جمعت الآية على قصرها مكارم الأخلاق جميعا دون إخلال أو حذف ملبس.
ومثاله أيضا قوله (ص): (إنّما الأعمال بالنيّات) فالحديث يتضمّن معاني كثيرة تشعّ بها الألفاظ وتومئ إليها من غير إخلال
__________
(1). كتاب التعريفات، الجرجاني، ص 32.
(2). معجم المصطلحات العربية في اللغة والادب، وهبة- المهندس ص 162.
بالمعنى. لهذا قال الرمّاني (1): «الإيجاز تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى».
1 - 2. نوعاه:
ينقسم الإيجاز الى قسمين، هما:
أ- إيجاز قصر:
وهو ما تزيد فيه المعاني على الألفاظ ولا يقدّر فيه محذوف، ويسمى أيضا إيجاز البلاغة لأن الأقدار تتفاوت فيه.
مثاله قوله تعالى أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ الأعراف: 54. لقد جمعت الآية فأوعت حتى إنه روي أنّ ابن عمر (ر) قرأها فقال: من بقي له شيء فليطلبه.
ومثاله أيضا قوله (ص): (الضعيف أمير الرّكب). فالحديث جمع من آداب السفر والعطف على الضعيف ما لا يسهل التعبير عنه إلّا بالقول المسهب.
ومنه قول السموءل (الطويل):
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها … فليس الى حسن الثناء سبيل
فقد جمع البيت الصفات الحميدة من سماحة وشجاعة وتواضع وحلم وصبر واحتمال مكاره في سبيل طلب الحمد إذ كل هذه مما تضيم النفس.
وبهذا النوع من الإيجاز تغنّى البلاغيّون فقالوا: «القليل الكافي خير من كثير غير شاف».
__________
(1). النكت في اعجاز القرآن، الرمّاني، ص 77.
ب- إيجاز حذف:
ويكون بحذف شيء من العبارة لا يخلّ بالفهم، مع وجود قرينة لفظية أو معنوية تدلّ على المحذوف. ويكون هذا المحذوف.
أ- حرفا:
كقوله تعالى وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا مريم: 20. فلقد حذفت النون من (أكن) تخفيفا.
ب- اسما مضافا:
كقوله تعالى وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ الحج: 78 والمحذوف (سبيل) وجاهدوا في سبيل الله ...
ج- اسما مضافا اليه:
كقوله وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ الأعراف: 142 فحذف المضاف اليه (ليال) والتقدير بعشر ليال.
د- اسما موصوفا:
كقوله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً مريم: 60 أي عملا صالحا.
هـ- اسما صفة:
كقوله تعالى مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ ص: 51 أي وشراب كثير بدليل ما قبله.
و- شرطا:
كقوله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ آل عمران: 31 أي فإن تتّبعوني يحببكم الله.
ز- جواب شرط:
كقوله تعالى وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها الزمر: 73. كأنه قيل: قد حصلوا على النعيم المقيم. والحذف هنا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب فيه كل مذهب، ولو ذكر الجواب لقصر على وجه واحد تتضمّنه العبارة، والحذف يترك للنفس أن تقدّر ما يحلو لها رؤيته ...
ح- مسندا:
كقوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لقمان: 25 أي خلقهن الله.
ط- مسندا اليه:
كقول حاتم الطائي (الطويل):
أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى … إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر.
أي إذا حشرجت النّفس.
ي- المعطوف:
كقوله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ الحديد: 10 والتقدير: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعده وقاتل. والقرينة الدالة على ذلك قوله تعالى بعد ذلك أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا الحديد: 10
ك- جملة:
والمقصود هنا (جملة تامة لا تكون جزءا من كلام آخر وإلّا دخل الشرط والجزاء المعطوف ضمنها). ومثاله قوله
تعالى وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً والتقدير: فضرب فانفجرت، فحذف السبب وذكر المسبب.
ل- جملا:
كقوله تعالى فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً الفرقان،: 36 والجمل محذوفة فأتياهم، فأبلغاهم الرسالة، فكذبوهما ... حتى يكون العقاب فدّمّرناهم تدميرا.
لقد بيّن الرمّاني (1) الأثر النفسي للحذف قائلا بعد ذكر الآيتين الآتيتين:
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى الرعد: 31
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها الزّمر: 73
«وإنّما صار الحذف في هذا أبلغ من الذّكر لأنّ النفس تذهب فيه كلّ مذهب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمّنه البيان».
__________
(1). النكت في إعجاز القرآن، الرمّاني، ص 77.