عاد عمير بن وهب الجمحي من بدر ناجياً بنفسه .. لكنه خلف وراءه ابنه (وهباً) أسيراً في أيدي المسلمين ... وقد كان عمير يخشي أن يأخذ المسلمون الفتي بجريرة أبيه .. وأن يسوموه سوء العذاب جزاء ما كان ينزل برسول الله صلي الله عليه وسلم من الأذى .. ولقاء ما كان يلحق بأصحابه من النكال.
وفي ذات ضحي توجه عمير إلي المسجد للطواف بالكعبة والتبرك بأصنامها .. فوجد صفوان بن أمية جالساً إلي جانب الحجر فأقبل عليه وقال: عم صباحاً يا سيد قريش فقال صفوان: عم صباحاً يا أبا وهب .. اجلس نتحدث ساعة فإنما يقطع الوقت بالحديث .. فجلس عمير بإزاء صفوان بن أمية وطفق الرجلان يتذاكران بدراً ومصابها العظيم ويعددان الأسري الذين وقعوا في يد محمد وأصحابه .. ويتفجعان على عظماء قريش ممن قتلتهم سيوف المسلمين وغيبهم القليب في أعماقه (القليب: بئر دفن فيه قتلي المشركين يوم بدر).
فتنهد صفوان بن أمية وقال: ليس والله في العيش خير بعدهم فقال عمير: صدقت والله ثم سكت قليلاً وقال: ورب الكعبة لولا ديون علي ليس عندي ما أقضيها به .. وعيال أخشي عليهم الضياع من بعدي .. لمضيت إلي محمد وقتلته وحسمت أمره وكففت شره ثم أتبع يقول بصوت خافت: وإن في وجود ابني وهب لديهم ما يجعل ذهابي إلي يثرب أمراً لا يثير الشبهات.
اغتنم صفوان بن أمية كلام عمير بن وهب ولم يشأ أن يفوت هذه الفرصة فالتفت إليه وقال: يا عمير .. اجعل دينك كله علي فأنا أقضيه عنك مهما بلغ .. وأما عيالك فسأضمهم إلي عيالي ما امتدت بى وبهم الحياة وإن في مالي من الكثرة ما يسعهم جميعاً ويكفل لهم العيش الرغيد فقال عمير: إذن اكتم حديثنا هذا ولا تطلع عليه أحداً فقال صفوان: لك ذلك.
ثم بادر عمر إلي النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحاً سيفه وما أظنه إلا يريد شراً فقال عليه السلام: أدخله علي فأقبل الفاروق علي عمير بن وهب وأخذ بتلابيبه وطوق عنقه بحمالة سيفه ومضي به نحو رسول الله صلي الله عليه وسلم ... فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام علي هذه الحال قال لعمر: أطلقه يا عمر فأطلقه ثم قال له : استأخر عنه فتأخر عنه .. ثم توجه إلي عمير بن وهب وقال: ادن يا عمير فدنا وقال: أنعم صباحاً (وهي تحية العرب في الجاهلية) فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لقد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك ياعمير ... لقد أكرمنا الله بالسلام وهي تحية أهل الجنة. فقال عمير: والله ما أنت ببعيد عن تحيتنا وإنك بها لحديث عهد .. فقال له الرسول صلي الله عليه وسلم: وما الذي جاء بك ياعمير؟ قال: جئت أرجو فكاك هذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا إلي فيه قال: فما بال السيف في عنقك ؟! قال: قبحها الله من سيوف .. وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر ؟!
قال: أصدقني ما جئت له ياعمير ؟ .. قال: ما جئت إلا لذاك . قال بل قعدت أنت وصفوان بن أمية عند الحجر فتذاكرتما أصحاب القليب من ضرعي قريش ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً .. فتحمل لك صفوان بن أمية دينك وعيالك علي أن تقتلني .. والله حائل بينك وبين ذلك.
فذهل عمير لحظة ثم ما لبث أن قال: أشهد أنك لرسول الله .. ثم أردف يقول: لقد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي .. لكن خبري مع صفوان بن أمية لم يعلم به أحد إلا أنا وهو .. ووالله لقد أيقنت أنه ما أتلك به إلا الله ..
فالحمد لله أن ساقني إليك سوقاً .. ليهديني إلي الإسلام .. ثم شهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأسلم
فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: فقهوا أخاكم في دينه .. وعلموه القرآن .. وأطلقوا أسيره.

فرح المسلمون باسلام عمير بن وهب أشد الفرح .. حتي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لخنزير كان أحب إلي من عمير بن وهب حين قدم علي رسول الله صلي الله عليه وسلم .. وهو اليوم أحب إلي من بعض أبنائي.
وفيما كان عمير يزكي نفسه بتعاليم الاسلام .. ويترع فؤاده بنور القرآن .. ويحيا أروع أيام حياته وأغناها .. مما أنساه مكه ومن في مكه .. كان صفوان بن أمية يمني نفسه الأماني .. ويمر بأندية قريش فيقول: أبشروا بنبأ عظيم يأتيكم قريباً فينسيكم وقعة بدر.
ثم أنه لما طال الانتظار علي صفوان بن أمية .. أخذ القلق يتسرب إلي نفسه شيئاً فشيئاً .. حتي غدا يتقلب علي أحر من الجمر .. وطفق يسائل الركبان عن عمير بن وهب فلا يجد عند أحد جواباً يشفيه. إلي أن جاءه راكب فقال: إن عميراً قد أسلم .. فنزل عليه الخبر نزول الصاعقة .. إذ كان يظن أن عمير بن وهب لا يسلم ولو أسلم جميع من علي ظهر الأرض.
أما عمير بن وهب فانه ما كاد يتفقه في دينه .. ويحفظ ما تيسر له من كلام ربه .. حتي جاء إلي النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله لقد غبر علي زمان وأنا دائب علي إطفاء نور الله .. شديد الأذي لمن كان علي دين الإسلام .. وأنا أحب أن تأذن لي بأن أقدم علي مكة لأدعو قريشاً إلي الله ورسوله .. فإن قبلوا مني فنعم ما فعلوا .. وإن أعرضوا عني آذيتهم في دينهم كما كنت أؤذي أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم.
فاذن له الرسول عليه الصلاة والسلام فوافي مكة وأتي بيت صفوان بن أمية وقال: يا صفوان أنك لسيد من سادات قريش .. وعاقل من عقلاء قريش .. أفتري أن هذا الذي أنتم عليه من عبادة الأحجار والذبح لها يصح في العقل أن يكون ديناً ؟
أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. ثم طفق عمير يدعو إلي دين الله في مكه ..حتي أسلم علي يديه خلق كثير
اجزل الله مثوبة عمير بن وهب ونور له في قبره