تقع مدينة صبراته التاريخية على بعد 67 كم غرب العاصمة الليبية طرابلس, على ساحل البحر الابيض المتوسط, وسط وشاح اخضر تلتقي عنده نهايات سهل جفارة الفاصل بين حواف الجبل الغربي ومياه المتوسط شديدة الزرقة, وعلى بعد كيلومتر واحد من شوارع المدينة وعماراتها وحركتها الدائبة, تجثم بجلال وسكينة اثار صبراته الفينيقية الرومانية بجدرانها الدهرية الفخمة, ومدافنها البونيقية, وأعمدتها المرمرية, ومسرحها الفخم المرمم, وممراتها المرصوفة, متحدية عاديات الزمن, وشاهدة على ما عرفته المنطقة من حضارات ودول, وعصور ومواسم فالاضرحة الفينيقية تتحاور وتتجاور مع الاثار الرومانية الهائلة المتجهمة التي تحمل الكثير من قسمات الرومان انفسهم, وتنبىء عن الطينة التي خبزوا منها, مثلما يشي موقع المدينة الساحر والاستراتيجي بمدى حنكة وشاعرية مؤسسيها الفينيقيين.
وفيما يلي سياحة في الزمان والمكان, صعوداً وارتقاء مع صبراته إلى أيامها الأولى ومواسمها القديمة, ووصف سريع لأبهة المشهد وعبقرية المكان, ومحاولة رسم لملامح مدينة عربية تحفز البحر الأبيض المتوسط منذ عشرات القرون, مدينة يتصافح عند ثناياها وحكاياها ما اعتاد الناس أن يسموه زمانا ومكانا, تاريخيا وجغرافيا.
ليس ثمة اتفاق بين المؤرخين على تحديد دقيق لتاريخ تأسيس مدينة صبراته, وان كان البعض يرجح أن تكون أسست في القرن السادس قبل الميلاد, و(يؤيد هذا الكلام الحفريات التي أجريت حديثا بمدينة صبراته في المنطقة ما بين الفورم والبحر, حيث وجدت بها آثار فينيقية تتمثل في مصاطب رملية, كان الفينيقيون يقيمون فوقها أكواخا مؤقتة لفترة قصيرة من السنة, وأثناء الحفريات وجدت فوق المصاطب طبقات سميكة من الرمال, وهذا دليل على أن الموقع ظل مهجوراً لفترة زمنية طويلة. وفي تلك الأكواخ وجدت جرار بونيقية , وقدور يونانية ترجع للقرنين السادس والخامس قبل الميلاد).
وعلى جانب المدينة الفينيقية بنيت المدينة الرومانية بمسرحها الفخم, المدرجات وبيوتها العالية, وأعمدتها وأقواسها, ليتشكل من الحين معا, ما يمكن اعتباره مدينة كبيرة بمقاييس ذلك العصر, وهي مدينة كانت تشكل بمرساها احد أهم المراكز التجارية على الساحل الأفريقي لحوض البحر الأبيض المتوسط, وإحدى المدن الثلاث التي سمي بها إقليم طرابلس, وهي لبدة الكبرى, واويا (طرابلس الحالية) و صبراته , ومن هذه الحواضر الفينيقية الشقيقات الثلاث سمي الإقليم كله طرابلس (Tripoli).
أما بالنسبة للتسمية, فقد وجد اسم المدينة بصيغة (صبرات) Sabrat على العملة البونيقية الحديثة, وأحيانا صبراتن (Sabratan), وتعني هذه العبارة (سوق الحبوب), ولذا يرجح بعض المؤرخين أن المدينة كانت تلعب دورا كبيرا في المبادلات التجارية بين شرق وشمال المتوسط من جهة, وتجار محاصيل المنطقة الطرابلسية وحتى الجبل الغربي (جبل نغوسة) وغدامس من جهة أخرى, وان كان المؤرخ فيليب وارد يرى أن يونان جزيرة صقلية هم من كانوا يصدرون الحبوب لصبراته لا العكس, وأنها كانت بمينائها مجرد واجهة بحرية لمدينة أخرى تحمل هي أيضا اسما شبيها هو (صابرية) ولكنها في عمق البر وهي التي تعرف الآن باسم الجوش.
وقد ذكر بلينيوس الأكبر plinius في كتابه (التاريخ الطبيعي) وكذلك بطليموس في كتابه (الجغرافيا) أن اسم صبراته أطلق لتحديد منطقتين الأولى بالداخل وكانت تدفع الضرائب للثانية الساحلية, والمصادر التاريخية تذكر وجود أثار رومانية بالقرب من الجوش, وهذا دليل على سابق وجود مدينة هامة والمصادر التاريخية نفسها تسمى هذه المدينة صابرية Sabria وهو يشبه اسم المدينة الساحلية صبراته التي نتحدث عنها هنا.
وإذا رجعنا مع التاريخ نجد أن بداية تأسيس المدينة, مرتبطة بموجة الاكتساح الحضاري الفينيقي لسواحل حوض البحر المتوسط, وربما يكون من الضروري أن نشير في هذا المقام, إلى أن الفينيقيين هؤلاء هم شعب سامٍ عروبي, كان يتركز أساسا ببلاد الشام, وتحديدا جبال لبنان الحالية وقد مهروا في الملاحة البحرية والتجارة, وكانوا شعبا وديعا مسالما, وهم من بناصور وصيدا وغيرهما من حواضر بلاد الشام, كما أسسوا مراكز حضرية في جزر المتوسط, ووصلوا أسبانيا وبريطانيا, وكانوا يمرون بمحاذاة شواطىء شمال أفريقيا ليتمكنوا من اللجوء إليها في حالة هبوب العواصف العاتية, ومع مرور الوقت اسسوا عددا كبيرا من المدن على هذه الشواطىء الأفريقية الشمالية كانت أبرزها قرطاج, والمدن الطرابلسية, وجزيرة قرقنة بتونس, وقابس, وحضرموت (سوسة بتونس الآن), وهيبو رحبيس (عنابة) وغيرها.
وهكذا نلاحظ أن الفينيقيين لم يؤسسوا هذه المحطات فحسب بل إنهم أقاموا العديد منها, وكان غالبها مجرد محطات صغيرة كانت تقام على الشاطىء في كل 30 كلم تقريبا, وذلك خوفا من الابتعاد عن السواحل ولكي يستريحوا من تعب السفر ويتزودوا بالطعام والماء ويستطيعوا إصلاح سفنهم إن أصابها عطل, وقد لعبت تلك المحطات التي أنشئت لأغراض سوقية وتجارية, دور الوطن البديل الذي هاجرت إليه موجات من الفينيقيين بعدما اشتد ضغط الآشوريين في وطنهم الأصلي لبنان, حيث قام مهاجرون من صيدا بالاستيطان نهائيا بالإقليم الطرابلسي, ولحق بهم آخرون من صور.
ولكن الكتاب القدماء يختلفون في أي هذه المدن الفينيقية أنشأتها مدينة صور وأيها التي أنشأتها مدينة صيدا, ويخبرنا الشاعر اللاتيني سيليوس ايتاليكوس أن مدينة صور ومهاجريها هم من أنشأوا مدينتي لبدة وصبراته, ولكن من قام بإنشاء مدينة أويا (طرابلس) هم مهاجرون من صقلية من أصل فينيقي.
أما المؤرخ سالوستيوس كرسبيوس 86 ــ 34 ق.م والذي كان ينتمي لأسرة من العامة وشغل منصب (بروقنصل) لأفريقيا الجديدة في عهد قيصر, فقد قال إن مهاجرين من صيدا هم من أنشأ لبدة, وعند مقارنتنا لرأي الكاتبين يتبين أن الكتاب اللاتين كانوا يخلطون في كتاباتهم بين مدينتي صيدا وصور, وفي كلتا الحالتين فإن المقصود هو أن صبراته والمدن الطرابلسية قد أسسهما واستقر بهما الفينيقيون أولا.
وعلى أي حال فان مدينة صبراته لم تبلغ أوج ازدهارها إلا بعدما بسطت عليها قرطاجة سيطرتها اثر تدخلها لطرد اليونان الذين حاولوا بقيادة دوريوس بناء مستوطنة بإقليم غرب ليبيا عند مصب وادي كنبس (وادي كعام), وقد شارك إلى جانب الفينيقيين في الدفاع عن المنطقة, وظلت المدينة قرطاجية مع نوع من الحكم الذاتي حتى تمكن الرومان من تدمير قرطاج وإحراقها نهائيا في نهاية الحروب البونيقية 146 ق.م لينتهي بذلك حلم فينيقي جميل ــ كما تروي الأساطير ـ بدأته مؤسسة قرطاجة عليسة شقيقة الملك الصوري بجماليون.
أما على مستوى الحياة الروحية فقد كانت تسود صبراته الديانات الشرقية التي استقدمها الفينيقيون, المتميزة بتعدد (الآلهة) الأسطورية, وفي مقدمة تلك الآلهة, الآلهة (تانيت بينبعل) التي هي في الأصل الآلهة (اسطرطة) آلهة القمر عند الفينيقيين بمدينة صور, وكانت بمثابة الآلهة (هيرا) زوجة الإله زيوس عند اليونان, وفي مقام الآلهة (يونوسيليستس) زوجة الإله جوبيتر عند الرومان.
ويعتقد أحمد صقر في كتابه (مدينة المغرب العربي في التاريخ) أن (تانيت بينبعل) كانت تعبد كإلهة للبذر والحصاد والتناسل ويستغاث بها عند الولادة) وقد دلت (الحفريات التي أجريت بمنطقة رأس المنفاخ بمدينة صبراته في سنتي 74 ـ 1975م أن الآلهة تانيت هي المعبود الرئيسي بالمدينة حيث أن معظم الأحجار النذرية التي وجدت بالمقبرة البونيقية تحتوي على عظام الأطفال المحروقين والمقدمين قربانا للإله (بعل), ومن بين الأدلة التي تبين عادة التضحية بالأطفال, تلك الصورة المنحوتة على النصب التذكاري الموجود بتونس والذي يمثل كاهنا يرتدي جبة شفافة وهو يرفع يده مبتهلا ومتضرعا إلى المعبود (بعل) ومقدما له القرابين).
وقد اصطلح علماء الآثار على تسمية الجرار والمدافن التي تحوي عظام أطفال محروقة كقرابين فينيقية, باسم (توفيت) ويؤكد مثل هذه العبادة المؤرخ اليوناني القديم بلوتارخ (45 ـ 125م) الذي يقول أن ( المؤمنين الحقيقيين كانوا لا يترددون في تقديم أطفالهم قرابين على مذبح الآلهة, أما الأغنياء ذوو العقلية الواقعية فقد كانوا يقدمون للآلهة صغار الرقيق أو يشترون أبناء الفقراء ويستعيضون بهم عن أبنائهم قرابين).
وقد استعيض لاحقا عن تقديم قرابين بشرية بقرابين من الماعز والماشية, والدليل على ذلك أن الأواني الفخارية التي اكتشفت برأس المنفاخ بصبراته كانت ملأى بعظام ماشية محروقة, حيث أن الإله بعل حمون استعاض عن الضحية من الأطفال بالضحية الحيوانية التي تكون غالبا خروفا أو جدي ماعز وقد أيدت هذا الكلام الحفريات الأثرية, وكذلك النقوش التي وجدت على الأنصاب الرومانية في نقاوس, حيث يقول النقس (روح بروح ودم بدم وحياة بحياة) وهذه العبادة تعنى أن الإله بعل قد قبل التعويض عن حياة البشر بحياة الحيوان كما تعد دليلا على أن الديانة التوحيدية (ملة إبراهيم) عليه السلام, قد عرفت طريقها إلى الفينيقيين في آخر عهودهم أيضا.
وحين بسط الرومان سيطرتهم على المدينة بالغوا في بناء مبان ضخمة مازال بعضها قائما حتى الآن بصبراته كالمسرح ومعبد الفورم, والأقواس الفخمة التي تذكر بقوس ماركس اورليوس بطرابلس وعرفت المدينة ازدهارا شديدا على المستويين الفكري والتجاري, وقد سجلت لنا وثيقة جو الصراعات الفكرية بين رومان صبراته هي كتاب المطارحات الشهير: (دفاع صبراته) وحين أضاء الإسلام ظلام العصور ووصل الفاتحون أبواب صبراته, فتحت لهم ذراعيها بكل حب, كما تحدثنا كتب المغازي, بأن أهالي هذه المدينة فتحوها للمسلمين صلحا دون قتال, ربما لأن الأرض تحن إلى أهلها, فهذه المدينة العربية الفينيقية رأت في الفتح الإسلامي عودة إلى الأصل وخلاصا من براثن الرومان.
وبعد عدة قرون من صراعات دول شمال أفريقيا الاسلامية وقع تهميش المدينة بعدما نهضت مدن أخرى في الدواخل, كانت أكثر أمنا, وأبعد عن طارقي البحر وغزاته ومغامريه, وتآكل الكثير من أحياء المدينة وحل بالبعض الأخر الخراب, وذلك لطبيعة المواد التي استعملت في البناء, ومعظمها من الحجر الجيري المغطى بطبقة من الجبس (الستوكو) وبفعل عوامل التعرية والرطوبة, كانت طبقة الجبس تتآكل مع الزمن لتنهار بعد ذلك المباني ويتحول بعضها إلى أكوام من الحجارة, والأعمدة المنهارة أو المتصدعة, وقد ذكر الرحالة اليعقوبي أواخر القرن الحادي عشر الميلادي أنه مر بصبراته وأن بها مباني, وتماثيل فخمة, أما التيجاني فقد مر بها في القرن الرابع عشر ووصف أعمدة الرخام والمباني بقوله ( وبهذه المدينة أثار قديمة وأعمدة مرتفعة من الرخام قائمة إلى الآن لأبناء يكنفها, ووجدت ساريتان منها متجاورتان على شكل واحد وكل واحدة مؤلفة من أربع قطع في غاية الفخامة والارتفاع وحسن الصنع) .
كما وصف أثار صبراته الكثير من الرحالة الأوروبيين في القرن التاسع عشر مثل (بارت) الذي تحدث عن (المسرح والأعمدة والأقواس وقد رأى أيضا رصيف الميناء, وتمثالين من الرخام أحدهما لامرأة ذات جسم متناسق) كما وصفها الرحالة (فون مالتزان) ووصف المسرح الدائري, والتماثيل والميناء وبعض الأبنية البيزنطية المتأخرة.
ومع الاحتلال الإيطالي لليبيا 1911م قررت الحكومة الإيطالية تكليف بعثة من كبار المؤرخين وعلماء الآثار بالبحث عن الآثار الرومانية بصبراته وغيرها من المدن الليبية, وذلك لأنها كانت ترفع شعار أن طرابلس هي شاطىء روما الرابع, وبدأت الحفائر المكثفة بصبراته من سنة 1923م إلى 1936م, وأدت إلى اكتشاف وترميم معظم مباني وشوارع ومسرح ومدافن المدينة القائمة حتى الآن.
وربما تكون هذه هي الحسنة الوحيدة التي تركها الطليان بليبيا وإن كانوا نهبوا الكثير من الآثار, ثم رمم الضريح البونيقي الشهير العائد للقرنين الثالث والثاني قبل الميلاد والذي هو مسلة شاهقة, ترى مع المسرح من عدة كيلومترات, وإلى جانب مدينة صبراته الأثرية بأوابدها ومعابدها تقف الآن ثانية المدينة الحديثة بشوارعها وعماراتها وعربها الودودين, ومغارس نخيلها وزيتونها وأرضها شديدة الخضرة الممتدة حتى دحمان وحرمان شرقا, وجبار والعجيلات وسوق العلالقة جنوبا, وتنحسر الخضرة عند سبخة زواره غربا أما في الشمال فمازالت المدينة تستيقظ على اهازيج شاعرها الثرثار الأبدي: البحر الأبيض المتوسط.
|