د ر ا ســــــة ¦¦ اطلالات نقدية (ج 15) ¦¦
آخر
الصفحة
الأيام الخوالي

  • المشاركات: 28915
    نقاط التميز: 6392
عضو أساسي
الأيام الخوالي

عضو أساسي
المشاركات: 28915
نقاط التميز: 6392
معدل المشاركات يوميا: 3.7
الأيام منذ الإنضمام: 7863
  • 20:24 - 2009/08/21

 

 
img356/2986/simo1wl2.gif
د ر ا ســــــة ¦¦ اطلالات نقدية (ج 15) ¦¦

حسن صقر يبحث عن الظلام

في روايته "البحث عن الظلام" الصادرة عن دار "الحصاد" بدمشق عام 1993، يجرب حسن صقر حظه للمرة الثانية في عالم الرواية، بعد روايته الأولى "الوجه الآخر للسقوط" الصادرة عن وزارة الثقافة في سوريا عام
1992.

وقد عُرف الكاتب أساساً قصاصاً متميزاً قبل هذين العملين الروائيين. فما الذي يريده من الانتقال إلى الرواية؟ مما لا شك فيه أن الرواية تبدو أوسع أفقاً وأعمق غوراً، ويمكن للكاتب من خلالها الخوض يمنة ويسرة في جميع مسارات الوجود الإنساني، بحرية وشمولية قد لا تتوافران في القصة القصيرة ومما لا شك فيه أن للكاتب ملء الحق في اختيار شكله الأدبي، ويمكنه بهذا الصدد تجريب أكثر من صيغة. وهذا ما كان. فاختار حسن صقر أن يبحث عن الظلام، وفي الظلام، من خلال صيغة روائية غريبة إلى حد ما، شكلاً ومضموناً.

تقع رواية "البحث عن الظلام" في /150/ مائة وخمسين صفحة من القطع الصغير، وهي موزعة في تسعة فصول، بنيت في أساسها على تداعيات واستبطانات قوامها مونولوج ذهني طويل، مفعم بالمرارة والأسى أغلب الأحيان، ومبطن بسخرية عابثة حيناً. وهو مونولوج غريب، وجه الغرابة فيه محاولته اتخاذ طابع الحوار حيث لا حوار على الإطلاق: فالراوي المستسلم لتداعياته التي لا تنتهي سجين سياسي من المعارضة المغضوب عليها دائماً. لكن الحظ ينعم عليه بعد خمس سنوات من التوقيف العرفي بابن عمه السلطوي اللامع وهو يحل ضيفاً عليه في زنزانته، بعد أن سحبت الكرسي من تحته. مع إطلالة هذا المسؤول البارز تبدأ الرواية وأحمد بركات، السجين "المعتق" منذ خمس سنوات، يستقبل ابن عمه محمود بركات بلهفة كما تفرض الوفادة وأصول الحفاوة خاصة أن ابن عمه السلطوي ذاك كان من وراء زجّه في الحبس- فيهتف بجملة مكثفة تبدأ بها الرواية: ها نحن نلتقي ثانية، أنا وأنت وجهاً لوجه كما لو أن كل شيء يجري في الحلم.

بهذه الجملة يبدأ مونولوج متنكر في صيغة حوار وهمي، لأن الوافد الجديد لا ينطق بكلمة واحدة، ويلتزم صمتاً كاملاً حتى نهاية الرواية!! فهل يكون هذا المونولوج الحواري أطول عملية جلد معنوية؟ ربما كان الأمر كذلك، فالقارئ يشعر أحياناً بوطأة هذا الموقف، ولا يستطيع منع نفسه من الابتسام وهو يرى أحمد يجلد محمود بالكلمة دون انقطاع، فيرفعه إلى أعلى ثم يخسف به الأرض، ساعياً دائماً إلى أن يفتح بصيرته قسراً، مجرباً دون ملل أن يحرك مشاعره قهراً، في حديث يدور ويدور، ويلتف ويتحلزن، كاشفاً كل الخبايا الخصوصية، خائضاً في جميع المشاكل: عاطفية، وطنية، إنسانية. ويعلل الراوي أحمد منذ الفصل الأول لجوءه إلى هذا المونولوج الحواري:

".. ربما أنك مرهق من الكلام، وأنا مرهق من الصمت، فسأقوم بدور المحدث.. فرصة نادرة من أجل إجراء عملية تطهير نحن أحوج ما نكون إليها.. ومهما يكن من أمر فإننا نستطيع بمصارحتنا هذه أن نردّ على اتهام يتردد دائماً في المسامع ألا وهو: إن الخراب قد جاء لأنك لم تحسن الإصغاء، ولأنني لم أحسن التكلم".

تخريج جميل وإن كان غير مقنع، لكنه على أي حال توضيح لا لبس فيه منذ البداية أن الراوي سوف يتولى ناصية الحديث حتى النهاية. وحتى عندما يكون حوار عابر مع ابن عمه محمود الصامت باستمرار، فهذا الحوار تخيلّي، يقوم أحمد من خلاله بوضع أقوال افتراضية على لسان محمود، ثم ينبري مباشرة للردّ عليه دون هوادة. فما هي وجهة وغاية هذا المونولوج- الحواري؟ نأخذ الجواب مباشرة من الفصل الأول: "قد تتساءل وهذا من حقك وواجبك أيضاً، ماذا يفعل المرء عندما يكتشف أخيراً أنه كان يسير في غفلة منه ضمن لعبة مرسومة من أعلى وأن اللعبة انقلبت عليه في أردأ الأوقات وأتعس الأزمان. وأنا أجيبك أن هذا هو الوقت الأمثل من أجل استعادة نفسه وترميم كيانه".

ومادة هذا الحديث الترميمي؟؟ يوضح الفصل الأول مباشرة للقارئ على لسان الراوي أحمد:

سأجوب معك العالم كله، لكن دون تنسيق أو نظام. نحن طليقان نطوي العالم طولاً وعرضاً. وإذا كان كل شيء ينهار من حولنا فهذا أفضل، لأننا بهذه الطريقة وحدها نستطيع إعادة تركيب العالم بالكيفية التي نشاء.

وهكذا، فالفصل الأول يقوم بدور الافتتاحية في التأليف السيمفوني حيث يتم استعراض الأفكار والمحاور والروح العامة، ليصار من ثم إلى استثمار كل فكرة على حدة. فنحن نتعرف منذ الفصل الأول على أمور عدة:

1- الشخصيتان المحوريتان: أحمد (معارضة) وابن عمه محمود (سلطة)، والاثنان رهن التوقيف العرفي.

2- مكان اجتماع الشخصيتين: زنزانة مشتركة تحت الأرض وفيها مصطبتان للنوم بينهما حفرة مرحاض.

3- موضوع الاجتماع: الرجوع إلى الذات واستجلاء الوعي على ثلاثة مستويات: فردي، ووطني، وإنساني.

4- وسيلة إنجاز هذا الموضوع: التداعي الحر حسب تجليات اللاشعور ويقظة الذكريات الغائبة، في مونولوج مأساوي ذهني يتقمص شخصية الحوار.

ويمكن للقارئ المتأني بالتالي أن يلمح منذ هذه الافتتاحية ما قد تحفل به الرواية لاحقاً من تألق وإبداع، مثلما يمكنه أن يتوجس سلفاً من مزالق التشتت التي يمكن أن تستدرج المؤلف:

1-فاللقطة الأساسية فريدة: ابنا عمّ على طرفي نقيض: مغمور (متهم بالمعارضة) ومشهور (بعيد النفوذ)، وكلاهما في زمن الرواية قيد الاعتقال، وهذا معناه أن المعارضة والسلطة، أو المحكوم والحاكم، وبالمعنى الأشمل فالمرحلة التاريخية بأكملها تجتر فشلها، وتحاول السيطرة على مرارة الهبوط بإعادة تركيب حلقات الواقع والوعي في مراجعة جريئة لتجربتها دون مواربة، لا ولا غفلة أو خداع للذات. لكن تلك اللقطة الفريدة سلاح ذو حدين إذ يمكن من خلالها خلط جميع الأوراق، وتضييع كل الحدود والمسؤوليات، كما يمكن للعمل الدرامي في هذه اللحظة أو تلك التحول إلى خطاب ذهني مباشر تتبخر معه النكهة الروائية في نوع غريب من المقالة أو البيان السياسي.

2-وأما الزنزانة فاختيارها سبيلاً إلى الوعي أمر فريد ومتميز في جانب منه، لأن ذلك الحيز المخنوق انقطاع كامل، وبرغم ما فيه من قسرية وقهر- بل بسبب ذلك تحديداً- يقف السجين أمام ذاته وأمام جميع القضايا في توترها الأقصى. والزنزانة ظلام، وعندما تدفع السجين لاستبطان ذاته فإنها تضعه أمام ظلام النفس، وأي ظلام أشد عتمة من تلك الأعماق المجهولة التي نادراً ما نتجرأ على استراق النظر إليها؟ هنا نفهم عنوان الرواية، كما نتعايش مع الأبيات القليلة التي تصدرتها بعد صفحة العنوان الداخلي، وهي الأبيات التي نظمها على ذمة الراوي- شاعر من الشباب الثورجيين كان قد حل ضيفاً على الراوي في زنزانته لفترة من الزمن قبل أن ينتقل إلى مصح الأمراض العقلية من شدة.. شاعريته وثورجيته:

الظلام ملك على كل الأمكنة والأزمان،

والظلام سيد ونحن في ركبه الجنود

الجميع يمسكون بالفوانيس المفضّضة،

علّهم يلحقون بطائر الظلام الذي لا يدرك

نعم، الزنزانة اختيار فريد لجلاء الوعي، وهنا يمكن للكاتب استثمار هذا التفرّد بحيث يتألق العمل الدرامي على وقع لسعات تلك الجدران الخانقة، لكن من طرف آخر، يمكن أن تمر الزنزانة مروراً باهتاً بحيث لا تعود غير كادر روتيني متكلف بكآبة، ولا يتم بينه وبين التنامي الدرامي أي تفاعل.

3-وجلاء الوعي وصولاً إلى يقين ثابت أمر يحتمل هو الآخر التأرجح بين الحدين المتناقضين: التألق أو الرتابة.. بين أن يستيقظ ذلك الوعي وينجلي تدريجياً على مراحل مع تصاعد الحدة الدرامية، وبين أن يأتي جاهزاً من خلال مناقشة ذهنية جافة، فهو شبه درسٍ ممل يتم تلقينه بكل جمود. ناهيك أن مستويات الوعي التي تحددت منذ الفصل الأول: فردياً، وطنياً، وإنسانياً هي فخ منصوب سلفاً، ويتطلب الكثير من التألق والإبداع لضبط إيقاع الرواية وفق أحد هذه المنظورات حصراً، بحيث لا يعود للمستويين الآخرين من حضور إلا استشفافاً من خلال المنظور الذي جرى اعتماده دون تردد.

4-وصلنا إلى التداعي الحر، وإنها لدعوى رائعة لمعانقة زمن الوعي والقفز فوق جميع المواضعات، لكنه هو الآخر يمكن أن يتحول إلى مجرد حيلة بارعة، يلتقط المؤلف من خلالها أنفاسه من حين لآخر. وهنا يمكن لأسلوب المونولوج الحواري أن يحاصر القارئ سلفاً داخل جدران الزنزانة، فهو في حيرة من أمر ذلك الراوي الذي قرر إغلاق فم محدثه حتى نهاية الرواية. وليس للقارئ والحال هذه إلا أن يشحذ همّته كي يتحمل "حملة التوعية" التي سوف يشنها الراوي أحمد عليه وعلى ابن عمه السلطوي.

كلا، لا ندعي من خلال الملاحظات السابقة أننا بصدد إعادة كتابة "البحث عن الظلام" لكن الإبداع في حقيقته تشكيل واختيار، ومن حق بل من واجب- الدارس أن يلاحق المؤلف في اللحظات الأولى لعملية الخلق حيث تكون جميع الاختيارات ممكنة، ليرى من ثمّ كيف تمّ اعتماد بعضها وإهمال بعضها عن سابق تصوّر وتصميم، وبدوافع واعية أو غير واعية. دون أي تطويل نسارع إذن بعد طرح الاحتمالات والاختيارات إلى متابعة فصول الرواية الواحد تلو الآخر في انفلاشها كمجموعة تداعيات غير منسقة، أو، على الأقل، هذا هو المخطط الذي طرحه الفصل الأول.

أما الفصل الثاني فهو خطاب ذهني يجري من خلاله مناقشة مسائل الضمير والألم والحب تمهيداً لسرد حلم كابوس شاهده الراوي في حبسه: كان الراوي في لقاء غض مع محبوبته سميرة، لكن حلاوة ذلك اللقاء خنقتها حملة قمع وتأديب مستمرة منذ ثلاثة آلاف عام -!!- بقيادة سلاطين الشرق. ويتكرم أحدهم السلطان أرطغرل الرابع- برفع الراوي ليركب خلفه. ويستمر الكابوس والراوي يقضي على أرطغرل.. بالضحك: كان السلطان في شوق إلى أن يضحك، فأخذ الراوي "يكركره" حتى مات ضحكاً. هنا يأخذ الكابوس منحى غريباً، إذ يكون الشاهد على هذه الجريمة والد الراوي ذاته، ويهتف الابن بأبيه:

"إياك أن تتكلم فأنت الشاهد الوحيد على الجريمة".

ويستغرق الكابوس من ثم في منحاه الجديد الغريب باتجاه عقدة أوديب دون زيادة ولا نقصان. فالأب يقود ابنه أحمد إلى البيت حيث تثور، على زعم الأب، مشكلة أخلاقية لا بد من حسمها. وفي حوار من جملتين قصيرتين يلمح القارئ التواطؤ بين الأم وابنها، إذ يسأل أحمد أمه بحنق مشيراً إلى أبيه:

"-ما الذي أتى به إلى هنا؟ ألم يمت غرقاً في الساقية؟"

فتجيب الأم باكية:

"-فضيحة يا أحمد، فضيحة! إنه يتهمني بالخيانة. أبوك مجنون يا أحمد. لقد دمّره الموت، وهو يريد أن يدمرنا.

وينتهي الكابوس مع نهاية الفصل الثاني، وغراب يلقي بأحمد فوق مصطبته القميئة في الحبس، وهو يزعق في أذنه:

"-اقبع هنا فأنت لا تستحق الحرية".

ويبدأ الفصل الثالث مع الراوي أحمد الذي يقفز لبرهة، مسلحاً بأجنحة الخيال، خارج السجن، جاعلاً من زنزانته سفينة تتهادى على صفحة البحر الأبيض المتوسط. وطبعاً لا ينسى أن يأخذ معه ابن عمه محمود في هذه الرحلة البحرية الشيقة وتكون المناسبة مؤاتية للتساؤل عن السبب الذي يجعل الناس في حوض المتوسط ينامون تعساء على ضفته اليسرى الشرق- وسعداء على ضفته اليمنى أوروبا- رحلة بحرية لا تطول يعود أحمد بعدها إلى الزنزانة ليسرد على ابن عمه وعلى القارئ- تجربته مع شاعر شاب يضج بالثورة والتوتر، وكان قد حجز معه مدة من الزمان. وهو الشاعر الذي نظم نشيد الظلام الذي صدّر الكاتب روايته ببعض أبياته، مثلما اقتبس منه العنوان. وربما أمكننا الإشارة بهذا الصدد إلى النشيد المقدس لدى البعثيين في الخمسينات، ومطلعه- في تحديهم للشيشكلي آنذاك:

إننا نهوى الظلاما

 

يا ظلام السجن خيم

لكننا لن نعطي هذا التلميح كبير دلالة، بل نعود مباشرة إلى شاعرنا الشاب كما قدمه أحمد. إنه يتفجر حماسة وأحلاماً، نافد الصبر، يريد إجابات حاسمة على كل الأسئلة، كما يطلب حل جميع المشاكل فوراً، دون تأجيل:

".. يا له من فتى رائع ذلك الشاعر المتقد الذي تحملت منه الكثير. ومع ذلك فقد ترك فيّ أثراً لا ينسى". وللأسف فقد انتهى إلى جنون كامل ونقل إلى المصح.

img135/1910/simofn6.gif
img356/2986/simo1wl2.gif


 

 د ر ا ســــــة ¦¦ اطلالات نقدية (ج 15) ¦¦
بداية
الصفحة