مرض السل "الدرن" (Tuberculosis)
![](http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/MSehia10/SihiyahMou/ALSEL/fig01.GIF)
مقدمة
عرفت البشرية مرض السل منذ أزمنة سحيقة، فقد وُصِف على جدران المعابد في مصر
القديمة، وذكره المؤرخون والرحالة والأطباء منذ قديم الأزل. وقد سببت جرثومة
هذا المرض خسائر جسيمة للإنسان على مدى العصور؛ إذ تجاوز عدد ضحاياه ضحايا
الحروب والكوارث والمجاعات على مدار التاريخ كله. وعلى الرغم من التقدم
العلمي المذهل والنجاح الذي حالف العلماء والأطباء في التحكم في انتشار المرض
في الستينيات والسبعينيات من هذا القرن، فقد أطل شبح هذا المرض المميت من
جديد على البشرية في الثمانينيات والتسعينيات.
وقد ساعد مرض نقص المناعة المكتسبة AIDS على انتشار مرض السل من جديد فعاد
ليفتك بالملايين من المرضى والأصحاء مرة ثانية. وقد أكد العلماء أن مرض نقص
المناعة المكتسبة قد أعطى فرصة لجراثيم السل لكي تستعيد نشاطها ومقدرتها على
الفتك بالإنسان، ومما زاد الأمر سوءًا أن صاحب ذلك ظهور سلالات جديدة مقاومة
لكل ما توصل إليه الإنسان من مضادات حيوية، فصارت خطراً يهدد البشرية جمعاء.
وجرثومة مرض السل غريبة في شكلها، فريدة في خواصها؛ فهي بكتريا عصوية صغيرة
الحجم لا يتعدى حجمها 1-2 ميكرون[1]، يكتسي جدارها بطبقة شمعية سميكة تقاوم
الذوبان في الماء والأحماض، وتقي جسم البكتريا من الجفاف، وسوء الظروف
المحيطة.
أما داخل جسم الإنسان، فتمثل الطبقة الشمعية سداً واقياً ضد الجهاز المناعي
الذي يحاول استخدام كل ما لديه من عصارات هاضمة، وخلايا أكولة للقضاء على هذا
الجسم الشمعي الغريب الشكل، ليحد من تكاثره وانتشاره. وعندما تستشعر مناعة
الجسم أنه لا جدوى من القضاء على هذه الجراثيم تلجأ إلى محاصرتها بعدة طبقات
من الألياف مكونة عقداً ليفية، وسرعان ما تقويها بأملاح الكالسيوم فتمنع وصول
الدم إلى هذه العقد. وإن كان الجسم قد نجح في حصار جيب صغير يتواجد فيه
الميكروب، إلا أنه في سبيل ذلك تعرض لفقد جزء مهم من أنسجته. وللأسف الشديد
قد ينتشر الميكروب في جميع أنحاء الجسم، أو على الأقل في جميع فصوص الرئة،
فيحولها إلى كتلة ليفية ميتة لا تستطيع القيام بمهامها من استخلاص للأكسجين،
والتخلص من ثاني أكسيد الكربون، فيضعف المريض وتقل قدرته على بذل أي مجهود
ويفقد وزنه بالتدريج، ولهذا سمي هذا المرض في اللغة الإنجليزية Consumption
ومعناه المرض الذي يستهلك صاحبه.
وجرثومة الدرن عدة أنواع، منها:
أولاً: جرثومة الدرن البشري Mycobacterium tuberculosis: وهي تنتقل من شخص
لآخر عن طريق البصاق، وتتحقق العدوى بهذا النوع عن طريق مخالطة المريض،
ومعاشرته لفترة طويلة.
ثانياً: جرثومة الدرن البقري Mycobacterium bovis: وهي عادة تنتقل للإنسان
بتناول ألبان الأبقار والجاموس المصاب، لذلك يُعد غلي اللبن، أو استعماله
مبستراً أهم طرق الوقاية من هذا المرض.
ثالثاً: جرثومة درن الطيور Mycobacterium avium: وهي جرثومة توجد في الدجاج،
وتسبب عدوى للإنسان في الرئة والأحشاء والجلد. وقد زاد انتشار هذا الميكروب
كثيراً في السنوات القليلة الماضية في مرضى الإيدز، وصار أحد الأسباب الهامة
لوفاتهم.
رابعاً: جرثومة درن الأسماك Mycobacterium marinum: وهي أقل الأنواع خطراً
على الإنسان وتنتقل إليه عبر الأسماك أو بطريق تعرض الجروح لماء ملوث
بالجرثومة الأمر الذي يؤدي إلى بروز عقد درنية في الجلد.
[1] الميكرون واحد على الألف من الملليمتر.
1. ميكروب السل: اكتشافه وخصائصه
بكتريا السل هي بكتريا هوائية، لذلك اختارت الجهاز التنفسي مأوى أساسياً لها،
وتميل هذه البكتريا إلى النمو في تكتلات على الرغم من نموها البطيء. وقد حيرت
جرثومة السل قديماً العلماء بسبب عجزهم عن رؤيتها في بصاق المرضى، ولم
يُستدَل على مسبب مرض السل حتى اكتشفه العالم الألماني المشهور روبرت كوخ
Robert Koch عام 1882. وقد أثبت كوخ أن هذا الميكروب يمكنه إحداث تغيرات
مرضية في مختلف أعضاء الجسم، مثل: الرئة، والغدد الليمفاوية، والحنجرة
والأمعاء، والمفاصل، وأغشية المخ السحائية، والأحشاء، والجلد. والسل الرئوي
هو أكثر أشكال السل شيوعاً وأكثرها مصدراً للأوبئة. ولما كان ميكروب السل
يكوّن عقداً Tubercles داخل أنسجة المريض، أسماه كوخ مرض التيوبركلوسيس
Tuberculosis أي التدرن.
وقد استطاع زيل نيلسون Ziehl Nelson ابتكار صبغة مكنته من صبغ جرثومة السل.
وتعتمد هذه الصبغة على التسخين المباشر لعينات البصاق المعروضة على شريحة
زجاجية، فتنصهر المادة الشمعية الموجودة في جدار الجرثومة، وتمرق الصبغة إلى
داخل الخلية. فإذا ما بردت الشريحة وتجمد الشمع أمكن رؤية الجرثومة. وتعد هذه
الصبغة من أهم طرق تشخيص المرض.
2. مراحل تطور الإصابة بالميكروب
يمر مصاب السل بمراحل وأطوار متتالية للعدوى، وفيها يتعرض الإنسان لاستنشاق
ذرات من بصاق الشخص المريض محتوية على الجراثيم. وتزحف هذه الميكروبات عبر
الممرات الهوائية إلى الحويصلات الهوائية وتلتصق بسطحها، فيهب الجسم للدفاع
ويرسل خلايا الدم الأكولة التي تلتهم الجراثيم بغرض هضمها ثم التخلص منها.
إلا أن هذه الخلايا تعجز عن هضم هذه الجراثيم، بسبب تحصنها داخل طبقة شمعية
سميكة، الأمر الذي يحمل الجسم على إرسال مدد إضافي من الخلايا الأكولة فتقوم
بمحاصرة تلك البؤر الموبوءة، ثم ينسج الجسم جداراً من ألياف قوية تحيط البؤر
من كل جانب فتصير عقداً (أُنظر شكل تكوين العقد).
وقد يقف المرض عند هذا الحد ويبقى كامناً شهوراً وسنين، وقد تفلت بعض الخلايا
الأكولة من التي ابتلعت ميكروب السل فتسير مع الدم إلى أماكن أخرى بالجسم،
وبالتالي تنتشر العقد في الجسم كله، وهو ما وصفه العالم المسلم ابن سينا[1]
منذ عدة قرون بالتدرن الجاروسي[2] Miliary Tuberculosis.
أما إذا تكررت العدوى للمرة الثانية، فتكون استجابة الجسم أسرع وأعنف
وبالتالي تبدو العقد أكبر ويكون تكوينها أسرع. وجرثومة السل تحدث التهاباً في
الأغشية التي تصيبها، بالإضافة إلى أنها تفرز سموماً تقتل أنسجة الرئة،
وتجعلها في شكل جُبن، ولذا تسمى هذه العملية بالتجبن Caseous Necrosis. وإذا
بقيت هذه التجبنات محصورة في الرئة سميت سلاًّ مقفولاً، بمعنى أن المصاب لا
يُعد بؤرة للمرض. أما إذا كانت هذه التجبنات قريبة من الشعب الهوائية أدى ذلك
انفتاحها عليها، الأمر الذي يعني أن يصبح الشخص مصدراً للعدوى، وتسمى هذه
الحالة بالسل المفتوح.
وأعراض السل تتلخص في فقدان الشهية، ونقص في الوزن، وقد يصاحب ذلك سعال، وعرق
غزير أثناء الليل مصحوباً بارتفاع طفيف في درجة الحرارة، وشحوب في اللون. وفي
المراحل المتأخرة يكون السعال مصحوباً ببصاق مدمم.
وتشخيص السل يعتمد أساساً على صبغ بصاق المريض. وإذا كان في مراحله المبكرة،
اعتمد تشخيصه على الكشف بالأشعة السينية على صدر المريض، فتنفذ الأشعة خلال
الرئة السليمة ولا تنفذ خلال العقد المتكلسة.
وقد ابتكر روبرت كوخ فكرة اختبار استطاع به أن يميز بين من سبقت إصابتهم بمرض
السل وبين الأصحاء. حيث تمكن من استخلاص الطبقة الشمعية وبروتينات جرثومة
السل بغرض استخدامها لقاحاً ضد المرض، إلا أنه لوحظ اختلاف أثر اللقاح بين
الناس، حيث لاحظ تكون عقد حمراء عند بعض الناس دون آخرين.
وقد فسر هذه الاختلاف على النحو التالي:
العينة التي ظهرت بها هذه العقد سبقت لها الإصابة بالمرض، حيث تعرفت خلايا
جسمها على اللقاح، فكان رد فعلها سريعاً وقوياً، حيث اندفعت إلى مكان وجود
اللقاح مسببة عقداً حمراء خلال الساعات الأولى من بدء الحقن.
أما العينة التي لم يبرز على سطوح جلدها عقد فلم يسبق لها التعرض لجرثومة
السل ، حيث كان رد فعل خلاياها ضعيفاً وغير مؤثر عند حقنها باللقاح، وعلى
الرغم من التعرف عليه بوصفه جسماً غريباً مهاجماً، إلا أن استجابة الخلايا له
لم تكن حاسمة بالقدر الكافي، الأمر الذي يعني ضعف المقاومة والتالي عدم تكون
عقد ظاهرة على الإطلاق. وقد استغل العلماء تلك الخاصية في تصميم أهم اختبار
لتشخيص السل في وقتنا هذا، يسمى اختبار التيوبركلين Tuberculin Test
3. العلاج
وجد أن العلاج المكون من نوعين من المضادات الحيوية، وهما: الستربتوميسين،
والايزونيازيد، مضافاً إليهما حمض البارا أمينوسلسليك، فعالٌ في إيقاف تطور
المرض والشفاء منه. إلا أنه ظهرت أخيراً سلالات من جرثومة الدرن لا تتأثر
بالمضادات الحيوية، ويصير معها العلاج عديم الفاعلية.
التطعيم ضد الدرن بلقاح البي. سي. جي (BCG)، وهو يستخدم في بعض البلدان التي
يكثر فيها المرض، فيتم تطعيم الأطفال بجرثومة من جراثيم السل تم إضعافها. وقد
سميت هذه الجرثومة على اسم العالمين اللذين قاما بتحضيرها؛ وهما: كالميت،
وجورين Bacille Calmette-Guerin. وقد وجد أن هذا اللقاح يعطي مناعة لا بأس
بها.