الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس
هو عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس، ولد في مدينة قسنطينة بالجزائر سنة 1308 هـ/1889 م. وتوفي فيها سنة 1359 هـ/1940 م عن عمر يناهزُ واحدًا وخمسين سنة. نشأ في أسرة مشهورة بالعلم والمال والجاه، نشأ في أحضان هذه الأسرة ذات المكانة المحترمة، فأرادت له أنْ يكون عالما وفقيها، ولذا ألحقته بالكتّاب فتتلمذ على يد محمد المدّاسي وحفظ القرآن الكريم ثم سافر إلى تونس والتحق بجامع الزيتونة حيث درس بها دراسته الثانوية، وتتلمذ هناك على عدد من العلماء أمثال : الشيخ محمد النّخلي، والشيخ الطاهر بن عاشور، وحصل ابن باديس على شهادة العالمية في السنة الدراسية (1911 – 1912) وفي سنة 1913 عاد من تونس إلى قسنطينة مدينته، وبدأ يعلّم أبناء وطنه، لكنّه في السنة نفسها فكّر في الذهاب إلى الحج فاتجه إلى البقاع المقدسة، وهناك سنحت له الفرصة أنْ يلتقي ولأول مرة بالشيخ البشير الإبراهيمي في أرض الحجاز، وقد اتفقا هناك على وضع الخطط الأولى للإصلاح في الجزائر، وبعد قضائه مناسك الحج عاد إلى الجزائر ليستقر في مدينة قسنطينة ويبدأ في تنفيذ خطته الإصلاحية.
تفكيره في الثورة :
في 7 جوان 1936 م تأسس المؤتمر الإسلامي الجزائري، وانضم إليه ابن باديس في حذر، وفي 18 جويلية 1936 م سافر وفدٌ من المؤتمر إلى باريس ومن بينهم ابن باديس للمفاوضة مع الحكومة الفرنسية... لكن الوفد رجع خائبا حيث هددهم وزير الدفاع الفرنسي آنذاك بقوله : » إنَّ لدى فرنسا مدافع طويلة«، فرد عليه ابن باديس : » إنّ لدينا مدافع أطول «... » إنّها مدافع الله «... وبعد عودة الوفد خائبا أنشد ابن باديس قصيدته المشهورة :
شَعـْبُ الجَـزائري مُـسْـلِمٌ وَإلىَ الـعُـروبَةِ يَنْتَـسِــبْ
مَنْ قَــالَ حَـادَ عَنْ أَصْلِـهِ أو قَــالَ مَـاتَ فَقَد كَـــذِبْ
أوْ رَامَ إدمَــاجًــا لَــهُ رَامَ المُـحـَـالَ مِنَ الطَّـلَـبْ
يَانَشْء أَنْتَ رجَـــاؤنَــا وَبِــكَ الصَّبــاحُ قَـدِ اقْتَرَبْ
خُـذ للحَياة سِلاَحـَــهَـا وَخُضِ الخُطــوبَ وَلاَ تَـهَـبْ
وأذْقْ نُفُـوسَ الـظّـالِمينَ السُّـمَّ يُـمْـزَجُ بِالـرَّهــبْ
واخْـلَع جـُذورَ الخَـائنينَ فَـمـِنْـهُـمْ كـُلُّ العَـطَــبْ
من كان يبغي ودنــــا فعلى الكرامــة و الرحـــب
أوْ كـــان يبغـي ذُلّـنَـا فَـلَـهُ الْمَـهَـانـةُ والحَـرَبْ
فالمُتمَعّنُ في هذه القصيدة يجدُ ابن باديس قد أعلن الحرب على فرنسا بالكلمة أوّلاً، ثم بالثورة المسلحة ثانيا، وكان قد حدّد تاريخ بداية الثورة المسلحة بدخول إيطاليا الحرب العالمية الثانية بجانب ألمانيا ضد فرنسا، مما يحقق هزيمتها السريعة، ولكن المنية أدركت ابن باديس قبل موعد إعلان الثورة ببضعة وخمسين يومًا، فقد توفي في 16 أفريل 1940 م، وقيل مات مسمومًا، ودخلت إيطاليا الحرب في10 يونيو1940م . كما ذكر الشيخ محمد الصالح بن عتيق مدير مدرسة الميلية، أنَّ ابن باديس انفلت من الرقابة الاستعمارية المضروبة عليه بقسنطينة لأنه كان تحت الإقامة الجبرية، وزار الميلية خفية متنكرا سنة 1940 م، واتصل به وسأله عن مدى استعداد الشعب الجزائري في منطقة الميلية للثورة المسلحة، فأجابه ابن عتيق بأنَّ رجال الميلية سيجدهم رجال بارود (أي شجعان صناديد) ويمكنه أن يعول عليهم إذا جـد الجـد، لأنَّ الاستعداد النفسي
للثورة كامل فيهم، ودعاه للنزول فاعتذر، لأن الزيـارة قصيرة لا تسمح له بطول الإقـامة. وقد تنبأ ابن باديس بالثورة وتحرير الوطن من الاستدمار الفرنسي في نشيده الشهير » اشهدي يا سماء « حين قال :
اشِهِدي يَا سَمَـا وَاكْتُبَنْ يا وُجـودْ
إنَّـنَـا للِحـمَـا سَنَكُونُ الجُـنُـودْ
فـنَـزيحْ البَـلاَ وَنَـفُـكُّ الْقُيُـودْ
ونَنيلُ الـرِّضـا مِنْ وَفَّى بِالعْهُـودِ
ونُـذيقُ الـرَّدَى كُـلَّ عـاتٍ كَنُودْ
وَيَـرَى جـِيلُـنَا خَـافـقَاتِ البُنودْ
ويَـرَى نجْمُنَـا لِلْعُـلاَ في صُعـودْ
هَكَـذَا هَـكَـذَا هَـكَـذا سَنَعُـودْ
فاشْهَدي يَا سَمَا واكتُبْن يا وُجـودْ
إنَّـنَـا للـعُـلاَ إنَّـنَـا للخُـلُـودْ
وفي هذا النشيد الثوري ما ليس في غيره من التصريح بالجنود يدافعون عن الحمى، ويرفعون خافقات البنود، ويزيحون البلاء النازل ويفكون القيود، ويذيقون الردى كل عاتٍِ كنود «، وقد تحقق ما ورد في هذا النشيد من أفكار فاستقلت الجزائر وعادت عربية مسلمة كما أراد لها الشيخ ابن باديس رحمه الله وطيب ثراه.وفي سنة 1937 حينما لاحت بوادر الحرب العالمية الثانية رفض ابن باديس أن يبعث برسالة تأييد للحكومة الفرنسية كما اقترح عليه بعض الأعضاء...
وهكذا ظل الزعيم الروحي لحرب التحرير الكبرى يجاهد في جبهات متعددة، وقد » ترك، في ظرف زمني قصير نسبيا، نحو عشرين سنة تأثيرًا بالغًا، كما ترك كتابات هـامة، لعبت دورهـا حين صدورها، وما تزال فيهـا بعض دروس وعظات لمن يتـأمل ويبحث «
ولما كان ابن باديس يشكل خطرا على الاستعمار الفرنسي وعلى الطرقية التي تسانده دبرّوا له مكيدة اغتيال في سنة 1937 عندما خرج عليه قاتل مأجور ذات ليلة وهو عائد إلى بيته في منتصف الليل بعد انتهائه من دروسه في المسجد ليغتاله، لكنه لم يفلح في تنفيذ جريمته، وأسرع أنصار ابن باديس وألقوا القبض عليه وأرادوا الفتك به لكن ابن باديس منعهم وعفا عنه، وقال لهم: اتركوه إنه مأجور. وفي هذه الحادثة أنشد محمد العيد آل خليفة قصيدة منها:
حَمتْك يَدُ المَوْلَى و كُنْتَ بِهَا أولَى فيَالكَ مِنْ شَيخَ حَمََتْهُ يَدُ المَـوْلَى
فَيَا لو ضِيع النّفْسِ كَيفَ تَطاولتْ بِهِ نَفْسُه حتَّى أسرّ لَكَ القَـتـلاَ
فَوَافَتكَ بالنَّصْر العَزِيزِ طَـلائـعٌ مُبَاركةٌ تَتْرى من الْـمـلأ الأعْلَى
وإنْ أنْسَ لا أنْسَى الذينَ تَظَافَرُوا عَلى الفَتْكِ بالجَاني فقلتَ لَهُم مَهْلاَ
وهذه الأبيات كما نرى تشتمل على غرضين أدبيين وهما : المدح و الهجاء، مدح ابن باديس، وهجاء المجرم الذي حاول اغتياله ومن هذه الحادثة نلمس مدى تسامح ابن باديس وعفوه عند المقدرة، والعفو عند المقدرة من شيم الكرام.
---------------------------------------------------------
منقووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووول