أبو رميصاء | | مشرف سابق | المشاركات: 36972 نقاط التميز: 16818 |  | معدل المشاركات يوميا: 5.9 | الأيام منذ الإنضمام: 6299 | |
صورة الآخر الغربي في أدب غادة السمّان ـــ د.عبده عبّود
1-لماذا المنهج المقارن؟
ثمة أسباب متعددة، تستدعي من الناقد أن يقرأ أدب غادة السمّان القصصيّ والروائي قراءة مقارنة، تطلّ على خارج الأدب القومي الذي تنتمي إليه هذه الكاتبة، لتشمل الآداب والثقافات الأجنبية التي تلقتها وتفاعلت معها. ويأتي في مقدمة تلك الأسباب السيرة الدراسية والثقافية لأديبتنا. فغادة السمّان قد درست، كما هو معروف، اللغة الإنكليزية وآدابها في جامعات دمشق وبيروت ولندن والقاهرة(1)، من البدهيّ أن تؤدي تلك الدراسة إلى تأثر الكاتبة بالأدب الإنكليزي وبالآداب الأوروبية الأخرى التي لابدّ لدارس ذلك الأدب من أن يطلع عليها. أما المصدر الثاني لذلك التأثر فهي الترجمات،
إذ من المعروف أن الفترة التي تكوّنت فيها غادة السمّان وتأسست ثقافياً، أي أواخر الخسمينيات وأوائل الستينيات، قد كانت فترة تميّزت بانفتاح المجتمع العربي السوري على الآداب الأوروبية، وبازدهار حركة الترجمة من تلك الآداب إلى العربية(2). ومما ساهم في تفاعل أديبتنا مع الثقافة الغربية أنها، منذ أن غادرت وطنها سورية في منتصف الستينيات، قد زارت العديد من الأقطار الغربية، في مهمات صحافية في بادئ الأمر، ثم بسبب الدراسة، وأقامت في لندن وباريس سنوات طويلة بعد أن حوّلت الحرب الأهلية "سويسرا الشرق الأوسط"، لبنان، إلى جحيم. ومن نافل القول إنّ تلك الزيارات والإقامات قد شكّلت بالنسبة لغادة السمّان مصدراً إضافياً للتأثر بالثقافة الغربية بالمعنى الواسع للكلمة، الذي يشمل نمط الحياة والسلوك والقيم. وباختصار فإن السيرة الدراسية والثقافية والمهنية والحياتية لأديبتنا، لا يمكن إلاّ أن تؤدي إلى تفاعل عميق مع الآداب والثقافة الغربية، وتلك مسألة لابدّ لدارس أعمالها من أن يأخذ مترتباتها في الحسبان.
وكان لاستقبال الآداب الأوروبية والتأثر بها من قبل غادة السمّان عدّة نتائج على صعيد أدبها، وهي نتائج يمكن إجمالها في الأمور الآتية:
1-الأخذ بأشكال فنيّة وتقنيات سردية غربية حديثة، كتيار الوعي، والحوار الداخلي، وتعدد زوايا السرد، وإلغاء الحدود التي تفصل الواقعي عن الخيالي في القصّ(3). صحيح أن تلك الأشكال والتقنيات الفنية باتت واسعة الانتشار في الأدب العالمي المعاصر، وأنها قد أمست ملكاً للآداب المعاصرة كلها، على حدّ قول الناقد الجزائري الرشيد بوشعير(4)، ولكنّ تلك الأشكال والتقنيات غربيّة المنشأ، وقد ارتبطت بأسماء كتّاب غربيين، من أمثال وليم فوكنر وجيمس جويس ولورنس داريل.
2-تسرّب تيارات ومذاهب فكرية غربية إلى أدب غادة السمان، وفي المقدمة الوجودية ذات الاتجاه العلماني، الذي يمثله الفيلسوفان الفرنسيان جان بول سارتر وألبير كامو، والدعوة إلى تحرر المرأة بالمعنى الوجودي الشامل الذي يتضمن التحرر الجنسي أيضاً، وهي دعوة كان للكاتبة الوجودية الفرنسية سيمون دوبوفوار دور كبير في بلورتها ونشرها. ومن المؤثرات الفكرية الغربية البارزة لدى غادة السمّان تأثرها بأفكار الصراع الطبقي اليسارية والديموقراطية الليبرالية، رغم ما يبدو للوهلة الأولى بين هذين المؤثرين من تعارض. وقد ظهر هذان المؤثران بكلّ وضوح في أعمال غادة السمان الروائية، ولاسيما في روايتي "بيروت 75" و "ليلة المليار"، حيث شكّلا لبّ الرسالة الفكرية التي تنطوي عليها هاتان الروايتان. ومن التيارات الفكرية الغربية التي استوعبتها غادة السمان وتأثرت بها التحليل النفسي الفرويدي الذي يصبغ أعمالها الأدبية بصبغته، وقد شكّل موضوع إحدى
قصصها القصيرة المبكرة، ألا وهي قصّة "هواية متعبة"(5). لقد تكاملت تلك المؤثرات الفكرية الأجنبية مع مؤثرات فكرية من الساحة الفكرية العربية، لتصنع معاً ما يمكن أن نسميه فكر غادة السمّان، الذي عبّرت عنه في أدبها القصصي والروائي.
إلاّ أنّ علاقة السمّان بالآداب والثقافة الأوروبية والغربية لم تقتصر على الاستقبال والتأثر، بل لها بعد آخر هو الإرسال والتأثير. فقد حظيت أعمالها الروائية والقصصية باهتمام ملحوظ في الخارج على الصعيدين الترجمي والنقدي، وهي من أكثر الأعمال الأدبية الحديثة ترجمة إلى اللغات الأجنبية، وأكثرها حضوراً في الدراسات النقدية العالمية(6). وقد أبدت الكاتبة اهتماماً كبيراً بهذه المسألة، وأشارت في كتبها إلى اللغات الأجنبية التي تُرجمت إليها قصصها ورواياتها، وهي تتواصل مع المترجمين الأجانب الذين ينقلون أعمالها إلى لغاتهم. وغني عن الشرح أن استقبال أدب غادة السمّان في العالم ترجمياً ونقدياً هو ظاهرة لا يمكن دراستها إلا بصورة مقارنة، تتخطى حدود الأدب العربي إلى الآداب الأجنبية، التي تترجم أعمال غادة السمّان إلى لغاتها، ويكتب بها عنها نقدياً.
وقد وعى بعض الباحثين العرب ضرورة دراسة أدب غادة السمّان بمنهج مقارن منذ وقت غير قصير. ففي عام 1986 تقدمت الباحثة السورية الدكتورة بثينة شعبان إلى المؤتمر الثاني "للرابطة العربية للأدب المقارن" بدراسة عنوانها: "بين الأدب النسائي العربي والأدب النسائي الإنكليزي –غادة السمّان وفرجينيا وولف"، بيّنت فيها الباحثة ما بين هاتين الأديبتين، ولاسيما بين روايتيهما "السيدة دالاوي" و"بيروت 75" من تشابه(7). وخصّص الباحث الدكتور غسّان السيّد لمقارنة الموضوع حرية المرأة غادة السمّان وسيمون دوبوفوار فصلاً من كتابه "الحرية الوجودية بين الفكر والواقع"(8)، عقد فيه مقارنة بين الدعوة الوجودية إلى تحرر المرأة التي صاغتها سيمون دوبوفوار في كتابها الشهير "الجنس الآخر"، وبين موضوع تحرر المرأة التي عبّرت عنه غادة السمّان أدبياً في مجموعتيها القصصيّتين المبكرتين "ليل الغرباء" و "لا بحر في بيروت".
وكان "تحرر المرأة عبر أعمال سيمون دوفوار وغادة السمّان" موضوع وعنوان رسالة جامعية وضعتها الباحثة اللبنانية نجلاء الاختيار باللغة الفرنسية، ثمّ ترجمتها إلى العربية ونشرتها(9). ولا نستبعد وجود دراسات نقدية أخرى، نحا مؤلفوها منحى مقارناً في دراسة أدب غادة السمّان، ولكننا لم نتمكن من الاطلاع عليها وتوثيقها، وذلك لعدم وجود ثبت بالدراسات والمقالات النقدية العربية والأجنبية المتعلقة بهذه الأديبة(10). رغم ذلك يمكن القول إن الدرس النقدي المقارن لأدب غادة السمّان ما زال في مرحلة البدايات، وإنّ هذا الأدب يحوي الكثير من المواضيع التي تنتظر جهود الدارسين المقارنين. أما أبرز الجوانب التي ينبغي لتلك الجهود أن تتناولها بالدرس فهي:
1-ظواهر التناصّ مع الآداب والثقافات الأجنبية في أدب غادة السمّان.
2-صورة الآخر الأجنبي في أدب غادة السمّان.
3-استقبال أدب غادة السمّان عالمياً بوساطة الترجمة والنقد.
4-مكانة أدب غادة السمّان في الأدب العالمي المعاصر.
ونظراً لضيق المجال فإننا سنكتفي في هذه المقالة بعرض جانب واحد من جوانب أدب غادة السمّان التي تهمّ المقارن، ألا وهو صورة الآخر الأجنبي في ذلك الأدب.
3-صورة المستعمر الوحشي:
يطلّ علينا الآخر الأجنبي منذ أول مجموعة من مجموعات غادة السمّان القصصية ألا وهي مجموعة "عيناك قدري" الصادرة سنة 1962. وهذا الآخر أوروبي على وجه التحديد، وهو يتمثل في المستعمر الفرنسي، الذي تصوّر الكاتبة ممارساته الوحشية ضدّ الشعب الجزائري، ودناءته، وانحطاطه الإنساني في اثنتين من قصص هذه المجموعة هما: "مغارة النسور" و"براري شقائق النعمان". الأولى قصة مناضلة جزائرية، تعمل خادمة لدى ضابط فرنسي سكّير، ولكنها تراقب حركاته، وتجمع المعلومات وتنقلها إلى الثوار الجزائريين المتحصّنين في الجبال، ومن أبشع ممارسات المستعمرين الفرنسيين التي تصوّرها القصّة قطع آذان الجزائريين كباراً وصغاراً، مقابل مكافأة تقدمها لهم سلطات الاحتلال. تقول المناضلة الجزائرية (بسمة) حول تلك الممارسة الوحشية: "ثلاثة أعوام وأنا أشهد قراصنة فرنسيين يقبضون ثمن صناديق معبأة بالقطع الغضروفية، بآذان إخوة وبنات لي"(11). وكانت ابنة تلك المناضلة قد تعرضت لممارسة جزّ الآذان، وتلك تجربة "تراوماتية" لا تنسى: "وأراها في أحد أزقة القرية اللاهثة بالحريق.. وأراها مرمية فوق دميتها المحطمة، مغروسة في الأرض بحربة مدبّبة.. رجل أزرق البياض ينحني بسكّينه على الرأس المعول.. ينهض عنه بعد ثوان وفي قبضة يده أذناه داميتا الدفء، يتألق فيهما قرطان ذهبيان بشكل هلال زُيّنت بهما الأذنان الحبيبتان ذات ليلة، ثمّ يضعهما بإهمال في أحد جيوبه، يتلمظ بحفاوة، وهو يتخيل العقد الماس الذي سيهديه لغانية تدب في ظلال السين النتنة"(12)، ولا تقتصر وحشية المستعمر الفرنسي، الذي صورته غادة السمّان في قصّتها، على قطع آذان الجزائريين، بل تشمل تعذيبهم بالكهرباء، وغرس الحديد المحمى في جروحهم المتدفقة، وشويهم في الفرن وهم أحياء. ولكن المناضلة الجزائرية(بسمة) واثقة من أن تلك الممارسات الوحشية ستقرّب نهاية الاستعمار الفرنسي، وستنقل الحريق إلى عقر داره باريس: "وأرى اللهيب والعواصف تهزّ برج إيفل، وأرى الثلوج حمراء دامية التهطال.. وأرى غواني السين يسترن بالظلال، والعاصفة تغسل عن أخاديد الوجوه المرعبة طلاءها الملوّن.. فتبدو الأفاعي والديدان الجائعة، والذعر يكتسح الساحات.. والعار يجلل شتاء فرنسا"(13).
أما في قصة "براري شقائق النعمان" فإنّ الآخر الاستعماري لا يتجسد في ضابط فرنسي أعرج سكّير، كما هي الحال في قصة "قلعة النسور"، بل في مرتزق ألماني، التحق "بالفرقة الأجنبية" التي شكّلتها فرنسا الاستعمارية، من مرتزقة ينتمون إلى جنسيات مختلفة. وكان هذا الألماني قد التحق بالفرقة المذكورة بعد أن ذبح صديقته، وفرّ من وجه العدالة. وفي الجزائر مارس هذا المرتزق، كغيره من مرتزقة الاستعمار الفرنسي، جدع آذان الجزائريين وتعذيبهم وقتلهم: "عشرون أذناً في جيبي، وسام الشرف الفرنسي أصبح قريباً"(14). وعندما همّ ذات مرّة بأن يقطع أذني أسير جزائري كُلِّف بحراسته، اكتشف أنّ آخرين قد سبقوه إلى ذلك: "إنه بلا أذنين.. يجلس هادئاً بصلابة جرحه المدمر. إنه يعريني من الشعارات التي دثروني بها في حانة السين.. وأنا الآن أقف عارياً بكلّ زيفي وحقارتي وضعفي"(15). في هذا الموقف استيقظت المشاعر الإنسانية في نفس المرتزق، فتعاطف مع الأسير الجزائري الجريح، وعندما أعطاه رئيسه الفرنسي أمراً بقتل الأسير، رفض أن ينفذ الأمر، فقتله الضابط الفرنسي. وفي لحظة الموت لمح الألماني في عيني الجزائري "ظلّ احترام ورضى" لم يكن بحاجة إلى أكثر منه. وبينما يموت المرتزق الألماني
راضياً "تظلّ الديدان تتغذى بالصديد وبسمعة فرنسا"(16).
إن الآخر الأوروبي الذي صوّرته غادة السمّان في هاتين القصّتين مستعمر وحشيّ، متجرّد من المشاعر الإنسانية، وهو المستعمر الذي قدّم الشعب الجزائري مليون شهيد لكي يتحرر من نيره. وبانتصار الثورة الجزائرية واندحار الاستعمار الفرنسي، زالت المرجعية الواقعية لصورة العدو الوحشي التي صاغتها غادة السمّان في قصّتيها.
إلاّ أن لصورة الآخر الغربي التي تنطوي عليها مجموعة "عيناك قدري" القصصية جانباً آخر، يتمثل في المرأة الأجنبية، التي تجتذب الرجل العربي السوري، وتجعله يهجر حبيبته العربية ويرتحل إلى بلاد الغرب. ففي قصّة (لو) تقع فتاة فقيرة مكافحة في حبّ طبيب، يبادلها الحبّ في أول الأمر، ولكنه ما يلبث أن يفاجئها بسفره إلى باريس للتخصص. وهناك يتزوج من زميلته الفرنسية، التي تصفها الفتاة السورية بأنها: "شقراء شفافة دقيقة اللون"، و"بالدمية الباريسية"(17). وفي قصّة أخرى بعنوان "في سنّ والدي" تقع فتاة في حبّ رجل يكبرها في السنّ كثيراً، ثمّ يتبيّن لها أن لهذا الرجل صديقة أجنبية: "الشقراء التي وصلت إلى الفندق صباح اليوم تسير إلى جانبه. غيوم في أعماقي. الرعب، المصير... عشيقته وقفت جانباً. أسلاك شعرها الشقر تغوص في خديّ.. الأسلاك الشقر تبدو من جديد(18). ويرتحل الحبيب مع عشيقته الشقراء إلى بلد غربي: "سيرحل مع الشمس إلى حيث لم يلحق بها أحد"، مخلفاً وراءه فتاة عربية سورية أحبته، وأصبحت تحقد على الأوروبية الشقراء التي سرقته منها: "إنها تلتصق به، تحتل مكاني بجانبه، غيمات حنين عينيه تمطرها اطمئناناً وسعادة"(19). وهكذا تولّد في نفس الفتاة العربية المهجورة حقد على الأوروبية الشقراء. ومن الملاحظ أن تلك الأوروبية قد اختُصِرت إلى عدد قليل من الصفات الخارجية، أو بالأحرى إلى معلم خارجي واحد هو اللون الأشقر، وذلك في إشارة إلى أن الرجال العرب يفضّلون الأوروبيات لمجرّد أنهن شقراوات. أما موقف العربية من منافستها الأجنبية فهو موقف عدائي، لأنها ترى فيها خطراً مصيرياً. إلاّ أن العربية عبّرت عن موقفها من الأوروبية دون إسفاف، ولم تطعن في أخلاقها أو شرفها، ولم تصفها بالغانية أو المومس(20). وعلى أية حال فإن صورة الآخر الأوروبي التي قدّمتها غادة السمّان في مجموعة "عيناك قدري" القصصية هي صورة يتكامل شقّاها: جنود احتلال ومرتزقة فرنسيون ينكلّون بالشعب الجزائري، وعشيقات شقراوات، يجتذبن المتعلمين من الرجال العرب السوريين، ويحفزنهم إلى الهجرة وترك الوطن. وفي الحالتين يشكّل الآخر الغربي عدوّاً يثير في نفس العربي مشاعر الحقد والنقمة والتحدّي. تلك هي المعالم الرئيسية للمرحلة الأولى من صورة ذلك الآخر في أدب غادة السمّان القصصي والروائي.
3-الصدمة الحضارية وصراع القيم:
تحوّل لقاء الإنسان العربي بالغرب ومجتمعه وقيمه إلى موضوع رئيسي لقسم كبير من القصص التي تضمّها مجموعة "ليل الغرباء" الصادرة سنة 1966. ففي قصّة "المواء" تلتحق فتاة عربية سورية بأخيها الذي يدرس في لندن، وهناك يعيش أيضاً حبيبها الرسام (حازم). تتعرض تلك الفتاة الشرقية لما بات يعرف بـ "الصدمة الحضارة" (Kulturschock) التي تتبأر في مضمار حميم، هو الحب والعلاقات الجنسية، وهو مجال يبلغ فيه التناقض بين المجتمعين العربي الشرقي والبريطاني الغربي وحضارتيهما وسلوك الأشخاص الذين ينتمون إليهما ذروته. وفي لندن تجد الفتاة القادمة من الشرق أن حبيبها الرسام (حازم) قد كفّ عن الرسم، وانصرف كليّاً إلى النساء. أما أخوها، الذي "كان يتوضأ إذا لمحني في ثياب النوم"،
فقد تحوّل إلى "طالب شرقيّ في سلّة شقراوات"
(21). ومما يصدم هذه الفتاة الشرقية، التي ترتبط علاقة المرأة بالرجل في نفسها بقيم وعواطف، كالحبّ والوفاء، أنّ علاقات الرجل بالنساء في المجتمع البريطاني، أي الغربي، بعيدة تماماً عن تلك القيم والعواطف، وأنّ قيماً أخرى، كالترويح عن النفس، وقضاء وقت جميل، تحكم تلك العلاقات. وفي نقاش يدور بين الفتاة العربية وبين الفتاة البريطانية، (دزدرا)، عشيقة أخيها سابقاً، حول هذه المسألة، تجيبها البريطانية عن سؤال ما إذا كان زميلها الذي دعته إلى السهرة يحبّها: "يحبّني؟ أنتن الشرقيات تتمسكن كثيراً بهذه المفاهيم التي تجاوزها العصر. الحبّ؟ كيف؟ ليس في غرفتي شرفة كشرفة جولييت أقف عليها في الليل.. أنتنّ الشرقيات لا تعرفن معنى الحياة الحقيقة: الجوع والرغبة والشهوة والملل والعقم"(22). وتحت ضغط محيطها الاجتماعي البريطاني من جهة، ودوافعها الغريزية المكبوتة من جهة أخرى، تحاول الفتاة الشرقية أن تتكيف مع المجتمع الغربي وقيمه: "عليّ أن أنتمي إلى هذا العالم، ما دمت عاجزة عن العودة إلى القرن
التاسع عشر.. ليلى سئمت من مضاجعة أشعار قيس"(23). وهكذا خاضت الفتاة العربية تجربة الحبّ، أو بالأصح: الجنس، على الطريقة الغربية، ولكنها خرجت من تلك التجربة خائبة محبطة. فهي عاجزة عن التمتع "بصداقات القطار. لا أستطيع أن أنسجم مع رجل لا أعرفه، لا أستطيع أن أمنح جنساً مقطّراً معزولاً عن مشاعري.. هذا الجيل الجديد في لندن يرعبني. لرجاله شعر طويل ونظرات مخنثة لا تطاق. ما زال الرجل في بلادي صلداً يثير حنين فتاته إلى انسحاق كامل.. ما زال يعاملها على أنه هو رجل"(24). بعد تلك التجربة المحبطة تحنّ الفتاة العربية إلى حبيبها العربي (حازم)، الذي ضاع في أحضان البريطانيات: "أنت وحدك تثير في نفسي إحساسي بأنوثتي، ومعك وحدك أستحيل امرأة.. أما الآن فلا جنس لي على الإطلاق"(25). إن نداء الغريزة الجنسية يتردد في نفسها بلا انقطاع، ولكنها غير قادرة على تلبيته، لأنها فقدت حبيبها (حازم) وفشلت في ممارسة "الحبّ" على الطريقة الغربية. وسط هذا الإحباط من الطبيعي أن يولد في نفس هذه الفتاة حقد على "جولييت عصر الذرّة"، وأن تحسّ برغبة في "أن تصفع شيئاً ما، أن تكسر شيئاً"(26). فالإحباط يولّد العدوانية، كما هو معروف. إلاّ أنّ الفتاة لم تقم بإدانة سلوك بنات جنسها البريطانيات، ولم تستنكر سلوك أخيها وحبيبها حازم، ولم تعطِ المسألة أبعاداً أخلاقية أو دينية، ولكنها رفضت نمط العلاقات الجنسية الغربي لأنه لا يلبي حاجاتها النفسية وهي لا تنسجم معه. ومن الملاحظ أيضاً أن الفتاة العربية قد عبّرت عن تمسكها بنمط العلاقات الجنسية السائد في المجتمع العربي، حيث الرجل الصلد الذي يعامل المرأة بصورة تشعرها بأنوثتها.
ولقاء الإنسان العربي السوري الدمشقي بالغرب البريطاني اللندني، وما يرافق ذلك اللقاء من صدمة حضارية، هو أيضاً موضوع قصّة "يا دمشق". إنها قصّة الشّاب الدمشقي (أكرم)، ابن زعيم حي الشاغور، الذي اختفت آثاره في لندن منذ عشرة أيام، ويقوم صديقه (حسان) بالبحث عنه في كل مكان، حتى في المسلخ. وأثناء عملية البحث يتعرض الشّاب لتجارب إنسانية قاسية. يظهر من خلالها التناقض الحضاري الكبير بين الشرق العربي والغرب، بين دمشق ولندن. فالشّابان السوريان أكرم وحسّان يعيشان "في قلب لندن"، وهما يعرفان حقّ المعرفة أنّ ذلك العالم الدمشقي القديم البريء، الذي تشكل الشام وغوطتها مركزه، والدين الإسلامي موجِّهه، عالم جميل، ولكنه قد أصبح "في فم التمساح". يقول حسّان عن جيل والده الذي لا يعرف تلك الحقيقة: "ليتهم يسمحون لنا بأن نعرف، وأن نواجههم بما نعرف، كي ننقذ المدينة قبل أن يلوك التمساح آلهتها وقيمها، ولا تقوى على الدفاع عنها(27). لقد غادر هذان الشابان السوريان مدينتهما لأنهما يكرهانها: "لماذا لا تفهمين أننا ما رفضناك إلاّ لأننا أحببناك.. لأن شتلنا في أرض غريبة مستحيل، فنحن رغماً عنا نعبد تلك الأصالة الإنسانية فيك.. ومن أجلها نثور عليك(28). وفي لندن يشعر الدمشقي حسّان بأن "شيئاً يركلني، وربما يركل أهلها جميعاً حتى يقفزوا من مكان إلى آخر، والقسوة على وجوههم، والخشونة في احتكاكهم"، فيحنّ إلى دمشق: ":يا دمشق.. أيّ سرّ فيك يشدّني إلى أضيق زقاق في الشاغور، أيّ كنز في قاسيونك يسمّر أعيننا
على العودة أينما كنا، أيّ نبع أصالة نأمل أن نفجّر"(29). رغم ذلك يحاول حسّان أن ينتمي إلى العالم الغربي، "الذي تهاجم أمواجهه شطآني بقسوة أسنان التمساح"(30)، وهذا موقف متناقض. وبالفعل فإن التناقض هو السمة الرئيسية لتفكير هذا الشابّ الدمشقي وسلوكه. إنه يمقت العالم الغربي المادي القاسي من جهة، ولكنه يماشيه ويتكيف معه من جهة أخرى، وهذا تناقض صارخ، نبهته إليه عشيقته الإنكليزية (سوزان)، التي يعاشرها جنسياً، ولكنه يتمسك في الوقت نفسه بحبّ فتاته الدمشقية (سوسن)، وكأن لا تناقض بين الأمرين: "متناقضون.. تخفون أعينكم بإحدى يديكم، حتى لا تروا ما تفعلونه باليد الأخرى"(31). أما هو فإنه يمارس الجنس مع الإنكليزيات لا لأنه يحبّهن، أو يفكر بالزواج من إحداهن، بل لأنه يرى في ذلك "مخدّراً" ضرورياً. وذات مرة وقع حسّان في شباك امرأة إنكليزية، اصطادته في الباص، واصطحبته معها إلى بيتها في حيّ وضيع، حيث ضاجعها لقاء بعض النقود التي أنفقها عليها، ولكنه فوجئ بأن ذلك قد تمّ بحضور زوجها المشلول وطفليها الصغيرين، مما شكّل صدمة لشابّ عربي تربّى على قيم الشهامة والرجولة والشرف. عندئذ شعر حسّان برغبة شديدة في الهرب: "أريد أن أهرب من لا مكان إلى لا مكان، أركض ممزقاً على الجسر الممتد فوق نهر الضباب.. الضباب يغمر كلّ شيء"(32). إنه مخرج ضبابي حقاً لأزمة هذا الشابّ الدمشقي الممزق، الذي يمقت أشياء كثيرة في لندن، أي في الغرب، ويمقت أشياء كثيرة في دمشق، أي في الشرق، ويقف "على الجسر بين عالمين"(33). فحسّان لا يحسم خياراته بالعودة إلى دمشق، إثر التجربة الجنسية مع السيدة الإنكليزية ذات الزوج المشلول، ويواصل الانغماس في علاقات جنسية خالية من الحبّ والعواطف الإنسانية، علماً بأنه يرفضها أخلاقياً: "النبع هنا مسمّم من أساسه، معدتي الدمشقية ترفضه، لكنه مدهش كمخدّر"(34). وفي ذلك يمثّل حسّان وأكرم شريحة واسعة من الرجال العرب الذين يقيمون في الغرب، حيث يجرون من "مخدر" إلى آخر.
إن الغرب في قصة "يا دمشق" يشكّل خطراً كبيراً على الشرق العربي الإسلامي، وهو تمساح سيفترس قيم ذلك الشرق وحضارته، ما لم نعرفه وندرأ خطره. والغرب يقوم على أساس أخلاقي فاسد، ولكن الحياة الجنسية الإباحية التي يوفّرها، تمثل بالنسبة للشبّان العرب إغراءً كبيراً و"مخدراً مدهشاً"، يهيئ للمرء متعة وهمية مؤقتة، ولكنه يجرّه إلى الإدمان. أما نتيجة الإقبال على ذلك "المخدر الرائع" فهي الضياع، الذي يشكّل ضياع الشابّ الدمشقي (أكرم) مثالاً له.
4-المهجر أو المنفى:
وفي قصّة "بقعة ضوء على مسرح" تأتي الفتاة العربية (مادو) إلى لندن، حيث يعيش أخوها (سليم)، وهناك تتعرض هذه الفتاة لتلك الصدمة الحضارية التي يتعرّض لها الشرقيون عندما يحتكون بالمجتمعات الغربية. فقد فوجئت (مادو) بما لامسته في حياة البريطانيين من برود عاطفي، ولا مبالاة إنسانية، وتمييز عنصري، وتفضيل للكلاب على الأطفال. إلاّ أن (مادو) تعرّضت في لندن لصدمة أخرى، لا ترجع إلى الحضارة الغربية بل ترجع إلى ما يسود في الوطن العربي من قمع سياسي. فقد التقت في لندن حبيبها (حازم)، وهو مناضل يساريّ سابق، تعرّض في بلاده للسجن والتعذيب. فقد انتزعت أظافره، وكسر ظهره، وصار يمشي على عكاز. وتصاب (مادو) بصدمة كبيرة، عندما تعرف ما تعرّض له حبيبها في الوطن من قمع وحشي، تحوّل هذا الرفيق والمناضل نتيجة له إلى شخص انتهازي، يرى أنّ "ليس في الحياة حقيقة تستحقّ أن يموت الإنسان من أجلها.. الوطن هراء.. أية دار دافئة مريحة أملكها هي وطني.. والمبادئ ليحكم الأذكياء باسمها، ويموت الأغبياء من أجلها!!"(35). وهكذا تعرّضت الفتاة العربية (مادو) أثناء إقامتها في لندن لصدمة مزدوجة: صدمة حضارية ولدها في نفسها ما يسود في المجتمع البريطاني الغربي من سلوك وقيم، وصدمة ولّدها في نفسها ما يمارس في الوطن من قمع سياسي وانتهاكات لحقوق الإنسان.. وهكذا ارتسم في قصة "بقعة ضوء على مسرح" ملمح جديد من ملامح صورة الغرب في أدب غادة السمّان. إنه الغرب المنفى، أو بلد اللجوء، أو المهجر، بالنسبة لأولئك العرب الذين يغادرون أوطانهم، أو يفرّون منها، نتيجة ما تفشى فيها من قمع سياسي. وفي بلاد غربية وغريبة كهذه، حيث لا حبّ ولا عواطف إنسانية، بلاد يلجأ إليها المحطّمون من المناضلين العرب، الذين تخلّوا عن أوطانهم، لا تستطيع (مادو) أن تعيش، ولذلك تقرر أن "تأخذ أول طائرة إلى مدينتي.. لن أبقى هنا.. لن.. وليكن ما يكون" (36). إنه قرار لا يمكن تفسيره إلاّ على ضوء خيبة الأمل المزدوجة التي عانتها (مادو) في لندن: خيبة أمل من المجتمع الغربي وحضارته، وخيبة أمل من الحبيب السابق (حازم) الذي تخلى عن كل ما ناضل من أجله من قيم سياسية واجتماعية، لا بل تخلى عن الوطن نفسه.
في قصة "أمسية باردة أخرى" تعرض غادة السمان بعداً آخر من أبعاد علاقة الشرق العربي الإسلامي بالغرب، ألا وهو البعد الفكري أو الأيديولوجي. فالفتاة العربية الفلسطينية (فاطمة)، التي فقدت يقينها بعد أن مزقت الأحداث السياسية المعاصرة أسرتها ومعتقداتها، أخذت تبحث عن بديل فكري، عبر مطالعات في مؤلّفات كتّاب غربيين، من أمثال كامو وسارتر وإليوت وكافكا. ولكنّ والدها ينهاها عن قراءة تلك المؤلفات، ويطلب إليها، بدلاً من ذلك، أو تتوضأ وتقرأ "صفحات من القرآن. فالله الذي اكتشفناه في هذا الشرق لا بديل له في فلسفات الغرب"(37). إنّ والد فاطمة ليس ضدّ الثقافة، "ولكنني لا أريد لكم ثقافة تقطع جذوركم
من ماضيكم، فتسودكم بدلاً من أن تهضموها أنتم"(38). إنّ عمليات الاستيراد الفكري والأيديولوجي الواسعة النطاق، التي شهدها الوطن العربي على امتداد القرن العشرين، ولاسيما في الخمسينيات والستينيات، قد كان لها دور كبير في تفريق العرب، وتحويلهم إلى اتجاهات عقائدية تقتتل فيما بينها، إلى درجة أن الابن أضحى مستعداً لأن يقتل أباه لأسباب أيديولوجية، مما دفع أعداداً كبيرة من العرب إلى الهجرة. "إليوت يصرخ من دفتي كتابته: أنا إنسان الأرض البوار.. كامو يئنّ: أنا الغريب؛ سارتر: أنا الإله. كافكا: أنا المحكوم بلا جريمة، أنا الصرصار. ثمّ يصرخون جميعاً معاً، وتنضمّ إلى الجوقة آلاف الصرخات، تمتزج، تعول، تهدر، ثمّ موجة من الفقاعات"(39).
قد لا يكون من الإنصاف أن نحمل الغرب مسؤولية استيراد فكره وإيديولوجياته من قبل العرب، ولكنّ الأمر المؤكّد هو أن ذلك الاستيراد قد كان مصدراً رئيسياً للتشرذم والتناحر والاقتتال والصراعات السياسية والأيديولوجية الدامية، التي شهدها الوطن العربي بعد الاستقلال. وهذا جانب مهمّ من علاقة العرب بالآخر الغربي الذي يصدّر إليهم فكراً يغرقهم ويضعفهم ويدفعهم إلى الاقتتال والهجرة.
أضافت غادة السمّان في قصة "الدانوب الرمادي"، وهي من مجموعة "رحيل المرافئ القديمة" الصادرة عام 1973، لبنة جديدة إلى صورة الغرب في أدبها، وذلك من خلال تصوير العاصمة النمساوية (فيينا). فقد سافرت المذيعة العربية السابقة إلى تلك المدينة، هرباً من واقع يمارس فيه إعلام مضلل، يقلب الأباطيل إلى حقائق، ويقدّم الهزائم كانتصارات. وكانت البيانات العسكرية الكاذبة، التي قرأتها تلك المذيعة في إذاعة بلادها، قد أدّت إلى مقتل
أخيها الفدائي "في تلك الليلة الحزينة من حزيران"(40). إثر ذلك بات من المستحيل أن تواصل تلك المذيعة عملها، فاستقالت منه، وغادرت بلدها إلى فيينا، التي اختارتها لأنها "لا تعرف لغة أهلها"، أي الألمانية. فالمذيعة قد أضربت عن التواصل مع الناس بوساطة اللغة، تلك الوسيلة التي أسيء استخدامها في وسائل إعلام بلادها. وفيينا عاصمة أوروبية غربية ليس لها دلالات فكرية أو سياسية في الوجدان العربي، ولذا يتوقع المرء أن تجد فيها المذيعة العربية الهاربة الراحة النفسية أو العصبية التي تبحث عنها. إلاّ أن ذلك التوقع يخيب بصورة كاملة. فكلّ ما في العاصمة النمساوية العريقة يذكر المذيعة العربية بمدينة دمشق وبمشكلتها الشخصية: الرقص الشعبي النمساوي يذكرها بالدبكة، والآلة الموسيقية النمساوية القديمة تذكرها بالقانون، ورسالة بيتهوفن التي يعلن فيها "قرفه من الحياة وعبثها" تمهيداً للانتحار، تذكّرها بإمكانية الانتحار كحلّ لأزمتها: "نسيت أن أنتحر.. كيف نسيت أن أنتحر؟!"(41). أما معزوفة "الدانوب الأزرق" الشهيرة، للموسيقار النمساوي شتراوس، فهي تقوم بدور "حفارة الذكريات"، إذ تذكّر المذيعة/ الراوية بكلّ ما عايشته وعانته في دمشق. حتى نهر الدانوب يصبح على صلة بالمذيعة الهاربة: "كلّ منا حزين من أجل دانوب.. إننا في الحقيقة نقف بحزن أمام نهركم، لأننا نرى عبره أنهار أعماقنا التي جفّت"(42). لقد جاءت المذيعة العربية إلى فيينا كي تنأى بنفسها عن الواقع السائد في بلادها، ولكن ها هي تصرخ: "أعيدوا دمشق إلى قلبي.. أعيدوني إلى قلب دمشق"(43). ولكن الواقع العربي لا يلحق بها إلى فيينا عبر الذكرى فحسب، بل يلحق بها بصورة مباشرة وشخصية، وذلك عندما يصل رئيسها وحبيبها السابق (حازم)، "ذلك الرجل الذي كان أبداً جرحي ولعنتي وسوطي"(44)، الرجل الذي كان قد حوّل صوتها "إلى مومس"، وشارك في تحويل المؤسسات الإعلامية في بلادها "إلى بيوتات للعهر" على حدّ قولها(45). وبوصول حازم إلى فيينا عادت المذيعة /الراوية لتجد نفسها في مواجهة الواقع الذي سافرت إلى هذه المدينة من أجل أن تبتعد عنه وتنساه. وبذلك لم يعد لوجودها في فيينا أية فائدة أو معنى. وعندما قرأت في إحدى الصحف أنّ صديقها ورفيقها الرسام (فواز)، الذي أصبح زعيماً فدائياً، قد قُتل نتيجة انفجار قنبلة في درج مكتبه، تكون المذيعة السابقة "في الطائرة العائدة من فيينا إلى بيروت.. أول طائرة"(46). لقد أرادت المذيعة /الراوية أن تكون المدينة الغربية فيينا ملجأ أو منتجعاً، تبرأ فيه من الأزمة النفسيّة، التي سببها لها الواقع السياسي والإعلامي القائم في بلادها، ولكن شيئاً من ذلك لم يتحقق، لأنها لم تكن قادرة على أن ترى فيينا، تلك العاصمة الثقافية الغربية، إلاّ عبر أفق توقعاتها المثقل بأوضاع الوطن ومشكلاته. وهكذا بيّنت غادة السمّان في قصتها "الدانوب الرمادي" أن أجمل العواصم الغربية وأكثرها حيادية، غير قادر على أن يبعد العربي عن مشكلات وطنه، وأن ينسيه ما يجري في ذلك الوطن.
وفي قصة "الساعتان والغراب" تناولت غادة السمّان علاقة الشرق العربي بالغرب من زاوية صحافية سويسرية ذات أصل يمنيّ، تربّت في مدرسة داخلية في جنيف، بعيداً عن أسرتها ووطنها، وظلّت تحنّ إلى ذلك الوطن الدافئ بطبيعته وإنسانه. وذات يوم كلّفتها المجلة السويسرية التي تعمل لديها، بأن تسافر إلى اليمن الجنوبي، لتعدّ تحقيقاً حول الثورة فيه.
وهناك وجدت الصحافية نفسها "مثل سمكة أعيدت إلى البحر بعد أن تخبّطت طويلاً في شوارع نائية في قارات الغربة"(47)، ووقعت في حبّ المناضل القيادي اليمني (فضل)، الذي دارت بينها وبينه أحاديث ومناقشات، يتعلق قسم كبير منها بعلاقة الشرق بالغرب، وصورة كلّ منهما لدى الآخر. يلخّص فضل رؤيته لتلك العلاقة قائلاً: "أنت قادمة من بلاد مأساتها التخمة التكنولوجية والتخلف الإنساني.. هنا نواجه العكس، لدينا تخلّف تكنولوجي، ولكنّ إنساننا ما زال إنساناً بالمعنى الأصيل للكلمة"(48). أما المرأة اليمنية، التي رأت فيها الصحافية السويسرية المتأثرة بالصورة الغربية للمرأة العربية "شيئاً ملفوفاً بملاءة سوداء يتحرك على الرصيف"، فإن "الدرع" الأسود الذي ترتديه "ليس دائماً حزمة من الكسل والبلادة"، كما يقول فضل، وذلك خلافاً لصورتها لدى الغربيين(49). ولئن كان الرجال اليمنيون "يحبّون أحياناً امتلاك النساء الشقراوات، فلا لشيء إلاّ لأنهم يقدّمون بذلك ردّاً لامتلاك المستعمر الكثير من نسائنا أيام القهر"(50). وفي اليمن الجنوبي، ذلك البلد العربي الفقير، الذي نهبه الاستعمار الغربي، وأبقاه متخلفاً، وسرق زمنه، تتذكّر الصحافية "الكلاب السمينة المدلّلة في جنيف"، وتتذكّر أولئك الذين يتظاهرون ضدّ إبادة الحمام في لندن ولكن "لن يخطر ببالهم قطّ أن يتظاهروا من أجل شعوب سُرقت أموالها لتودع في مصارفهم، من أجل شعوب تُباد بالقنابل.. فيتنام.. جنيف حيادية.. لا.. الحياد غير ممكن في هذا العالم الوحش.. من ليس معي فهو ضدّي"(51). فسويسرا، التي رفضت الانضمام حتى إلى هيئة الأمم المتحدة بحجّة الحياد، دولة لها دور كبير وقذر في نظام نهب العالم الثالث، الذي يودع الكثير من حكامه ما يسرقونه من ثروات شعوبهم في مصارف سويسرا ذات السريّة العالية الدرجة. وبهذا عادت غادة السمّان، لتصوغ جانباً تناقضياً أو صراعياً من علاقة العرب بالغرب. إنه الغرب الذي يقوم بنهب ثروات الوطن العربي بأشكال وأساليب مختلفة، ليست الطريقة السويسرية أقلّها خطورة. وقد أدانت الكاتبة في قصة "الساعتان والغراب" خرافة حياد سويسرا، والنفاق الغربي في مسألة الرفق بالحيوان والبيئة، وأنانية الغربيين ولا مبالاتهم الإنسانية تجاه ما يجري في العالم الثالث من نهب وتدمير لشعوب ومجتمعات بأسرها.
5-المرأة الأجنبيّة:
في رواية "بيروت 75" لا يظهر الآخر الغربي إلاّ بصورة عرضية وغير مباشرة، وذلك ضمن سياق مقارنة المرأة العربية بالمرأة الأجنبية. فالمتنفّذ اللبناني الثريّ (فاضل بك السلموني) يفضّل أن يقيم علاقاته الجنسية السريّة مع نساء أجنبيات: "مع الأجنبيات الصفقة أكثر وضوحاً، والتخلص بالتالي أكثر سهولة وبلا ذيول.. صحيح أنّ صديقاته العربيات أكثر حرارة وإخلاصاً، لكنهنّ غبيّات، يعشقن فعلاً الرجل الذي يعاشرهن، ويتحوّلن بمرور الزمن من متعة إلى مشكلة، ولا وقت لديه للمشاكل. الأجنبية تفهم الحياة أكثر.. خدمات مقابل خدمات.. ثمّ إنهن لا يُصدمن حين يطلعن على حاجاته وميوله بالتفصيل، بينما العربية تعتبر ذلك شذوذاً"(52). إنه موقف ممثلي الطبقة الموسرة من الرجال العرب، الذين يتعاملون مع المتعة الجنسية كسلعة تباع وتشترى، بمنأى عن الحب وغيره من العواطف، بينما يعاني أبناء الطبقات الفقيرة من شعبهم، كابن الصياد مصطفى، الحرمان الجنسي الشديد، ولا يسمح لأحدهم حتى أن يتحدث إلى الفتاة التي يحب.
ومن الملاحظ أن مواقف الرجال العرب من النساء الأجنبيات، في أدب غادة السمّان، شبه متطابقة. فالشبّان العرب الذين يعيشون في أوروبا متنقلين من أوروبية شقراء إلى أخرى، لا يرون في المرأة الأوروبية سوى "جرعة مسكّن"، وهذا موقف لا يختلف من حيث المبدأ عن موقف (فاضل بك السلموني)، الذي يفضّل الأجنبيات على العربيات، لأنهن يوفّرن له متعة جنسية بلا حبّ أو عاطفة. إنّ الفئتين، الثريّة وغير الثرية من الرجال العرب، تنكران على المرأة الأوروبية العاطفة والأخلاق، وتريان فيها مومساً أو ما يشبه المومس(53). صحيح أنّ الثري اللبناني (فاضل بك السلموني) يمتدح المرأة الأجنبية، لأنها تمارس معه الجنس كخدمة مأجورة، بعيداً عن العواطف، ولكنّ ذلك الثناء لا يعيد إلى تلك المرأة اعتبارها، بل يصنّفها بصورة تامة مع المومسات.
6-الجنّة أو صورة الوطن المنشود:
يدور جلّ أحداث رواية "ليلة المليار" الصادرة سنة 1986، في مدينة جنيف السويسرية، حيث تعيش حفنة من الأثرياء العرب، الذين يمارسون انطلاقاً من هناك مختلف أنواع الصفقات والنشاطات المشبوهة. ومن الطبيعي أن تنطوي هذه الرواية على صورة للبلاد التي تدور فيها أحداثها. ولكنّ ذلك لا يتمّ إلاّ على نطاق ضيّق. فالحدث الروائي يتمّ في عدد قليل جداً من الأمكنة، التي تتحرك فيها شخصيات الرواية، كالفندق الذي ينزل فيه المنجّم الشيخ وطفان، وفيلا الثري الكبير رغيد زهران الذهبية، وغرفة المثقف التقدمي المهاجر أمير النيلي. والشخصيات غير العربية شخصيات هامشية ذات أدوار ثانوية، كالطباخ الألماني الذي لا يعرف كلمة واحدة سوى الألمانية، والسائق السويسري الذي هدّد الثري العربي الشاب (صقر) بطرده من العمل، لأنه تمسّك بحقّه في العطلة الأسبوعية. والصحافية السويسرية التي تكتب الربورتاجات حول فضائح الأثرياء العرب في بلادها. ولكن رغم أنّ "ليلة المليار" ليست رواية حول سويسرا، بل حول الجالية العربية التي تقيم في سويسرا، فإنها تنطوي على صورة لتلك البلاد، ولمدينة جنيف على وجه الخصوص. وتقدّم تلك الصورة من منظور (خليل) بالدرجة الأولى، أي من منظور لبناني فقير مثقف، نجا بنفسه وبأسرته من جحيم الحرب اللبنانية. فعندما مشى خليل على قدميه إلى المدرسة الداخلية، التي التحق بها طفلاه، خُيّل إليه أنه "يمشي في الجنّة، ماء البحيرة الخرافي الجمال.. والخضرة.. هدوء مدهش الصمت والاسترخاء"(54). وعندما رأى آليّة تنظّف الرصيف بالماء والصابون، "تذكّر بغصّة شوارع القمامة في بيروت، والرائحة الكريهة لإحراقها فوق الأرصفة،.. هكذا تمنّى وطنه ذات يوم.. نظيفاً، هادئاً، يصلح لحياة الأطفال والعصافير"(55). وفي يوم آخر أتيحت لخليل فرصة التجوّل في القسم القديم من جنيف: "طاف في جنيف القديمة وأزقتها الحلوة، ومشى حتى متحف الأثينيه، ثمّ مشى طويلاً من متحف إلى آخر، ومن جنّة إلى أخرى، ودخل معرضاً فنياً، واستمتع بأصوات التماثيل وحفيف الأشجار في ريح اللوحات، ومشى، ومشى حتى وجد نفسه في هذه الحديقة، فطاف بورودها النادرة حوضاً بعد آخر، ولكلّ حوض اسمه المدوّن إلى جانبه، ثمّ تذكّر الجثث المكوّمة في بيروت، مجهولة الهوية وبلا أسماء، تدفن بالجملة في قبور جماعية، لا يزيد أحدها في اتساعه عن الحوض الخاصّ بالزهرة المسماة (وردة ماريا كالاس)، فلعن عالماً تعمّر بعض أقطاره البيوت للورود، وتحيطها بالزجاج والشاش خوفاً عليها من البرد، ولا تجد الجثث في أقطار أخرى قبراً، ولا أهلها بيتاً.. وذلك يحدث كله في عالم واحد"(56). لقد شكا خليل عدم المساواة السائد في العالم، ولكنه لم يوجّه نقده إلى الطرف الغربي، أو السويسري الغنيّ، ولم يحمله المسؤولية عما يسود في القسم الآخر (الشرقي) من العالم من بؤس وشقاء ودمار، بل لعن "عالماً" توجد فيه هذه التناقضات الصارخة، وهذا يعني أن غادة السمّان لم تعلّق البؤس العربي على شمّاعة الغرب، ولو فعلت ذلك لبرّأت العرب من المسؤولية عن ذلك البؤس. ويتكرر وصف جمال سويسرا، وطبيعتها وحدائقها، بمناسبة الرحلة التي دعا أمير النيلي أصدقاءه إليها. وأثناء تلك الرحلة كان ولدا خليل (رامي وفادي) يقفزان فوق حضن أمير "وسط نظرات الأوروبيين البسطاء المحبّين للأطفال"، خلافاً لفئات أخرى من الأوربيين المعروفين بكراهيتهم للأطفال وحبّهم للكلاب. "وحين تجاوزا الحدود السويسرية، فالفرنسية، من غير أن يذلّهما ضابط، أو يحقّرهما مسؤول، كما يحدث للمواطنين العرب في معظم (البوابات العربية)، على الحدود التي يفترض أنها وهمية، أبدت حماساً للاحترام الذي يلقاه المواطن العادي في تلك البلاد حتى الفقير"(57). إنه عالم الأوروبيين البسطاء، لا عالم الأثرياء، ولكنه عالم فيه متسع كبير للتمتع بالجمال، وللترفيه، والسرور، والسعادة، وفيه يحترم الإنسان من قبل أجهزة الدولة، حتى إذا كان فقيراً. وهنا عقدت الكاتبة، بلا مواربة، مقارنة بين الاحترام الذي يعامل به المواطن الأوروبي من قبل سلطات بلاده عندما يعبر الحدود وبين ذلك الإذلال الذي يتعرّض له المواطن العربي، عندما يعبر الحدود من قطر عربي إلى آخر، رغم كلّ شعارات الأخوة والوحدة العربية.
رأى خليل، برفقة أمير، وخلال جولاته على الأقدام في جنيف، شيئاً من جمال سويسرا وحضارتها. ولكنّ وليّ نعمته (صقر) اصطحبه ذات مرّة في رحلة إلى عاصمتين أوروبيّتين أخريين هما أثينا ولندن. فماذا رأى هناك، وهو المتعطش إلى الثقافة؟ لم يتمكن من أن يرى من أثينا، "مهد الإغريق".. غير شمة وضمّة وتكسير صحون في الأقبية، وآثار بلادي تباع في المزادات"(58). وفي لندن: "من المطار إلى دكان المجوهرات، حيث اشترى صقر عقدين ثمينين من الماس والفيروز البديع الزرقة. نحن في لندن.. والساعات تتوالى، ولم نطأ بأقدامنا المتحف البريطاني، ولا (التيت غاليري)، ولا أيّ مكان من تلك التي طالما حلمت بملامستها.. مع صقر لا ألامس إلاّ بشاعاتهم التي تروق له، فيما يتحاشى ملامسة حضارتهم. لا شيء غير جناح في الفندق الفاخر المطلّ على (الهايد بارك)، وقصره الريفي في ضاحية ونتوورث، وحاشيته المهذار، ورجال أعماله، وطاولة الميسر في كروك نورد.. ليس معقولاً أن لا أرى من معالم لندن غير طاولة ميسر"(59). إنّ مشاهدات خليل في أوروبا محكومة بعاملين هما: عمله لدى الثري الشاب (صقر)، وكونه لبنانياً فقيراً مهاجراً أو لاجئاً. فالعامل الأول يجعله لا يرى من أوروبا إلاّ الجانب الذي يهمّ عمله، والعامل الثاني يجعله يقارن أوروبا عموماً، وسويسرا على وجه الخصوص، بوطنه لبنان الذي تستعر فيه الحرب. وسويسرا التي تصوّرها "ليلة المليار" ليست بلداً جميلاً فحسب، بل هي أيضاً بلد يسود فيه القانون. فعندما يخشى (نسيم) أن يقوم المنجّم الشيخ وطفان بإيذاء (بحرية)، الفتاة اللبنانية الجريحة التي أحضروها من بيروت، يقول له: "اسمع يا شيخ وطفان.. إذا لمست أنت أو سواك شعرة من رأسها سأبلّغ البوليس.. تذكر أنك في سويسرا، لا في أرض الجان"(60). وعندما يهدد (صقر) السائق السويسري بالطرد من العمل، لأنه رفض أن يتخلى عن عطلته الأسبوعية، وتمسّك بحقّه في أن يقضيها مع أسرته، يجيبه خليل: "لا تستطيع قبل أن تبلّغه ذلك وفقاً للإجراءات القانونية هنا، وتدفع له تعويضاته. صحيح أنه سائق، ولكن ثمة من يحميه هنا. إنه سويسري". ويسأل (صقر): "من يحميه منّي؟" فيجيب خليل: "القانون، النقابة، سلطات بلده.. صحيح أن السّواح يحبّون سويسرا، لكنها مفصّلة على مقاس أهلها لا السوّاح"(61). هنا يضطر (صقر) لأن يتراجع ويتخلى عن لغة التهديد التي يستخدمها مع السائق السويسري. كما ترشح صورة سويسرا، كبلد يسود فيه القانون، عندما يحاول (رغيد)، كبير الأثرياء العرب في جنيف، أن يقنع معاونه (نديم) بأن يعود إلى بلده العربي، وأن يعترف هناك بأنه مسؤول عن انهيار بناء مدرسة، أدى إلى مقتل عدد من التلاميذ. يقول رغيد لمعاونه: "هذا خير لك من سجنك في سويسرا، حيث لا نفوذ لي مع أحد.. سيأخذ العدل مجراه هنا، ولن تغادر السجن إلاّ بعد انقضاء فترة عقوبتك.. هناك، إذا سجنت بالنيابة عني، سأكون طليقاً لأساعدك، ستُنقل في الأسبوع الثاني إلى مستشفى السجن،.. جناح خاصّ فاخر.. كلّ ما تطلبه سيكون لك. اعتبرها راحة.. سأسعى لإصدار عفو عنك"(62). إذاً في سويسرا يأخذ العدل مجراه، ولا يستطيع أحد أن يؤثر على القضاء، وأن يعرقل سير العدالة، خلافاً للبلد العربي الذي يودّ رغيد أن يسجن معاونه فيه.
تتلخص صورة سويسرا التي تنطوي عليها رواية "ليلة المليار" في أنها صورة بلد جميل، نظيف، هادئ، يسود فيه القانون، ويُحترم المواطن، وهذه صورة إيجابية جدّاً. إلاّ أنّ تلك الصورة تكشف، بشكل مباشر أو غير مباشر، صورة لوطن عربي متصحّر، يفتقر إلى الماء والخضرة، وتتكوّم القمامة والجثث في شوارع مدنه، ويفترس فيه القويّ الضعيف، ويستعبد الغني الفقير، لا ديموقراطية فيه ولا سيادة للقانون ولا كرامة للإنسان، شعار الناس فيه "معك قرش بتسوى قرش"(63). وباختصار فإنّ صورة سويسرا الإيجابية ترسم صورة لوطن عربي تقف منها على طرفي نقيض.
ماذا يترتب على هاتين الصورتين المتناقضتين؟ أهي دعوة مبطّنة للهجرة من الوطن العربي إلى ذلك البلد الجميل النظيف الهادئ الديموقراطي سويسرا؟ إنّ عكس ذلك تماماً صحيح. فبعد أن خاض اللبناني (خليل) تجربة العيش في ذلك البلد الذي "يشبه الجنة"، توصّل إلى استنتاج مغاير لما يتوقّعه المرء: "لن ننعم بديموقراطية لا نستحقّها، ولن ننعم بحريّة لم ندفع ثمنها،.. إنّ الإقامة في سويسرا لن تجعل منّا سويسريين مهما كنّا أثرياء"(64). ولذلك قرر خليل أن يعود إلى وطنه، فقد "استعاد حسه بالكرامة.. لن يكون لاجئاً.. مشرداً.. لن يتسول بعد اليوم عملاً وبطاقةً إقامة وتأشيرة دخول.. ولن.. ولن.. وإذا وجد بيته مدمراً فسيقيم في خيمة فوق أرضه ريثما يعيد بناءه.. هنا البداية، لا فوق مقعد في مقهى رصيف عاصمة أوروبية، ولا في مستنقع رغيد أو أمثاله"(65). لقد بدأت رواية "ليلة المليار" بنجاح خليل وأسرته في مغادرة بيروت إلى جنيف بالطائرة، هرباً من موت محقق على أيدي الميليشيات اللبنانية المتصارعة، وانتهت الرواية بعودة خليل إلى بيروت، وقد احتلّها الإسرائيليون، وأقاموا حواجز التفتيش في شوارعها. رغم ذلك، لا بل لذلك، قرّر خليل أن يبقى في بيروت: "سأبقى هنا.. وليكن ما يكون.. إذا رحلنا جميعاً من يقصّ الخيط"، أي حواجز التفتيش التي أقامها الاحتلال؟(66) إنّ الآخر الأوروبي، ممثلاً في سويسرا ومدينة جنيف، رائع، ويمكن أن يعدّ تجسيداً واقعياً للوطن الذي يحلم به كلّ مواطن عربي، إلاّ أنّ ذلك الآخر ليس بديلاً للوطن من جهة، وهو يؤوي من جهة أخرى تلك الحثالة العربية الثرية المتخلفة الفاسدة، التي اتخذت من سويسرا مقرّاً لها، تمارس انطلاقاً منه نهب الوطن العربي، وتخريبه، وإغراقه في حروب أهلية، وتشويه سمعته في العالم. وهذا هو الوجه الآخر لصورة سويسرا.
7-خاتمة:
إذا استرجعنا صورة الآخر الغربي في أدب غادة السمّان القصصيّ والروائي نجد أن تطوّر تلك الصورة قد شهد عدّة مراحل هي:
1-صورة الأوروبي المستعمر، الذي يمارس القمع الوحشي ضدّ الشعب الجزائري، وتغري شقراواته المتعلمين من الرجال العرب بالهجرة إلى الغرب. وهذه صورة سلبية جداً، تثير في نفس العربي مشاعر الحقد والنقمة والعداء.
2-صورة الغرب الذي يشكّل تحدياً حضارياً، أخلاقياً وقيمياً، للمجتمع الشرقي التقليدي، ويعرّض العرب الذين يفدون إليه لصدمة حضارية، مصدرها التناقض الحادّ بين القيم التي تربوا عليها في مجتمعهم العربي وبين قيم المجتمع الغربي الذي وفدوا إليه. وتبلغ تلك الصدمة الحضارية ذروتها في مضمار الحبّ والعلاقات الجنسية. وبينما تدفع الصدمة الحضارية الفتاة العربية للعودة إلى وطنها ومجتمعها، يتكيف الشبّان العرب مع الطريقة الغربية في الحبّ، ويستمتعون بها، رغم أنهم يرفضونها أخلاقياً ونظرياً.
3-صورة الغرب كملجأ أو مهجر أو منفى، يلجأ إليه أولئك العرب الذين ضاقوا بما تفشى في أوطانهم من قمع سياسي وحروب أهلية وانتهاكات لحقوق الإنسان.
4-الغرب الجميل، النظيف، الهادئ، الذي يسود فيه القانون، وتحترم فيه كرامة الإنسان، ويشكّل تجسيداً واقعياً للوطن الذي يحلم به كلّ مواطن عربي. إلاّ أنّ هذا الغرب نفسه يؤوي أولئك الأثرياء العرب، الذين نهبوا ثروات شعوبهم وأودعوها في مصارفه، ويمارسون انطلاقاً منه نشاطات تجارية مشبوهة، وسلكوا سلوكاً فضائحياً يشوّه سمعة العرب في العالم.
أما صورة المرأة الأوروبية فقد تطورت من عشيقة شقراء، تغري المتعلمين من الرجال العرب الهجرة إلى أوروبا، إلى امرأة ترى في علاقاتها الجنسية بالرجال نوعاً من الترويح عن النفس وتزجية وقت الفراغ بمنأى عن الحبّ والعواطف، وأخيراً إلى امرأة تعدّ ضحية للمجتمع الغربي القاسي، كتلك السيدة البريطانية التي تمارس البغاء السريّ من أجل أن تعيل طفليها وزوجها المشلول، أو تلك البريطانية المسنّة التي تعمل قاطعة تذاكر في حافلة لنقل الركاب، أو تلك الفتاة القاصر المدمنة على المخدرات، التي يقوم الشاب الثري العربي (صقر) باغتصابها. ومن الملاحظ صورة الآخر الغربي في أدب غادة السمّان قد تطوّرت بموازاة تطوّر مرجعيتها الواقعية، الذي تمثّل في انحسار الاستعمار الأوروبي المباشر للوطن العربي، وفي قدوم أعداد كبيرة من العرب إلى الأقطار الغربية للدراسة والزيارة والتجارة.. إلخ، ثمّ في تحوّل تلك الأقطار إلى ملجأ أو مهرب أو منفى أو مهجر لأولئك العرب الهاربين من القمع السياسي والدكتاتورية وانتهاكات حقوق الإنسان من جهة، وإلى مرتكز للأثرياء العرب وأموالهم من جهة أخرى. كذلك فإن صورة الآخر الغربي في أدب غادة السمان مرتبطة أوثق الارتباط بصورة الأنا العربية ومشكلاتها. فعندما كانت صورة ذلك الآخر، المتمثل في عسكريي الاستعمار الفرنسي ومرتزقته، سلبية جداً، كانت صورة الأنا، المتمثلة في المناضلين الوطنيين الجزائريين إيجابية جداً. وظلت صورة الآخر الغربي سلبية من حيث المبدأ في مرحلة الصدمة الحضارية وصراع القيم. ولكن صورة الآخر أصبحت إيجابية في المرحلة الأخيرة، التي تمثلها صورة سويسرا في رواية "ليلة المليار"، بينما أصبحت صورة الأنا العربي سلبية جداً. وفي كل مراحل تطور صورة الآخر الغربي في أدب غادة السمان، كان ذلك الآخر لا يُرى إلاّ بعين الأنا وعبر أفق توقعاتها.
?
( الهوامش:
(1) راجع بهذا الخصوص: روبرت كامبل (إعداد) أعلام الأدب العربي المعاصر، المجلد الثاني، بيروت، 1996، ص744-749.
(2) لمزيد من المعلومات حول هذه المسألة: حسام الخطيب، سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية، دمشق، 1980.
(3) كتب الناقد غالي شكري: تنهج غادة السمان في بناء روايتها نهجاً يشابه –من بعيد- ذلك النهج الذي عرفناه في "الخصب والعنف" لوليام فوكنر، وفي "رباعية الإسكندرية" للورنس داريل. غادة السمّان بلا أجنحة، ط2، بيروت، دار الطليعة، 1980. ص114.
(4) الرشيد بوشعير، أثر غابريل غارسيا ماركيز في الرواية العربية، دمشق، دار الأهالي، 1998، ص ص30. راجع أيضاً: نبيل سليمان، الرواية السورية 967-1977، دمشق، منشورات وزارة الثقافة، 1982، ص17-42.
(5) غادة السمان، لا بحر في بيروت، منشورات غادة السمان، ط8، 1988، ص121-126.
(6) لمزيد من المعلومات راجع كتابنا: هجرة النصوص –دراسات في الترجمة الأدبية والتبادل الثقافي. دمشق، 1996، ص ص31.
(7) بثينة شعبان، بين الأدب النسائي العربي والأدب النسائي الإنكليزي –غادة السمّان وفرجينيا وولف، مجلة (الموقف الأدبي) ، دمشق، العدد 186، تشرين الأول 1986، ص 64-89.
(8) غسان السيد، الحرية الوجودية بين الفكر والواقع، دراسة في الأدب المقارن، دمشق، مطبعة زيد بن ثابت، د.ت، ص 154-168.
(9) نجلاء الاختيار، تحرر المرأة عبر أعمال سيمون دوبوفوار وغادة السمان، بيروت، دار الطليعة، 1991.
(10) نقترح إصدار كتاب تكريمي يتضمن ثبتاً كهذا، وذلك بمناسبة الذكرى الستين لميلاد الأديبة.
(11) غادة السمان، عيناك قدري، بيروت، منشورات غادة السمّان، ط1، 1962، ط10، 1993، ص69.
(12) المصدر نفسه والصفحة نفسها.
(13) المصدر نفسه، ص73.
(14) المصدر نفسه، ص176.
(15) المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
(16) المصدر نفسه، ص179.
(17) المصدر نفسه، ص144 و147.
(18) المصدر نفسه، ص106.
(19) المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
(20) لمزيد من المعلومات حول صورة المرأة الأوروبية في الأدب العربي الحديث راجع كتابنا: الأدب المقارن –مدخل نظري ودراسات تطبيقية، حمص، 1991، ص ص394.
(21) غادة السمّان، ليل الغرباء، ط1، بيروت، منشورات غادة السمان، 1996، ط5،
ص28.
(22) المصدر نفسه، ص ص31.
(23) المصدر نفسه، ص34.
(24) المصدر نفسه، ص35.
(25) المصدر نفسه، ص38.
(26) المصدر نفسه، ص39.
(27) المصدر نفسه، ص117.
(28) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(29) المصدر نفسه، ص122.
(30) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(31) المصدر نفسه، ص118.
(32) المصدر نفسه، ص129.
(33) المصدر نفسه، ص119.
(34) المصدر نفسه، ص129.
(35) المصدر نفسه، ص64.
(36) المصدر نفسه، ص69.
(37) المصدر نفسه، ص136.
(38) المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
(39) المصدر نفسه، ص146.
(40) عادة السمّان، رحيل المرافئ القديمة، بيروت، منشورات غادة السمان، ط1، 1973، ط7، 1992، ص9.
(41) المصدر نفسه، ص26.
(42) المصدر نفسه، ص21.
(43) المصدر نفسه، ص25.
(44) المصدر نفسه، ص10.
(45) المصدر نفسه، ص36.
(46) المصدر نفسه، ص38.
(47) المصدر نفسه، ص122.
(48) المصدر نفسه، ص133.
(49) المصدر نفسه، ص127، 137.
(50) المصدر نفسه، ص143.
(51) المصدر نفسه، ص145.
(52) غادة السمّان، بيروت 75، بيروت، منشورات غادة السمان، ط1، 1975، ط6، 1993، ص47.
(53) لمزيد من المعلومات حول هذه المسألة راجع كتاب المستشرقة الألمانية روترود فيلاندت: صورة الأوروبيين في الأدب القصصي والمسرحي العربي الحديث. بيروت/ فيزبادن، 1986 (بالألمانية) .
(54) غادة السمّان، ليلة المليار، بيروت، منشورات غادة السمّان، ط1، 1986، ط2، 1991، ص131.
(55) المصدر نفسه، ص127.
(56) المصدر نفسه، ص213.
(57) المصدر نفسه، ص304.
(58) المصدر نفسه، ص365.
(59) المصدر نفسه، ص393.
(60) المصدر نفسه، ص254؟
(61) المصدر نفسه، ص293.
(62) المصدر نفسه، ص450.
(63) المصدر نفسه، ص481.
(64) المصدر نفسه، ص483.
(65) المصدر نفسه، ص489.
(66) المصدر نفسه، ص492. |
|