إدريس ولد القابلة
إذا كان يوم 16 غشت 1972 يوم بداية السقوط في الجحيم بالنسبة للبعض، فإنه كان بمثابة فاتحة خير ونقطة تحول في حياة محمد القباج. في ذلك اليوم بالذات قلبت، رأسا على عقب، الكثير من الحيوات، إما صعودا إلى سنم التألق والسلطة والجاه، أو نزولا إلى قاع الجحيم والضياع والاختفاء وراء الشمس.
ذلك اليوم شاء القدر أن يقود محمد القباج طاقم الطائرة الملكية القادمة من مطار برشلونة، وعلى متنها الملك الحسن الثاني وشقيقه الأمير مولاي عبد الله، يرافقهما مجموعة من الضباط والموظفين السامين والمرافقين لعاهل البلاد.كان أمقران والكويرة بطلين بارزين ضمن "العصبة الخاسرة"، وكان محمد القباج بطل "العصبة الرابحة"، في ذلك اليوم الصيفي.أمقران كان يعلم أنه "ميت مع وقف التنفيذ" بفعل إصابته بمرض عضال بكليتيه. لقد كان محكوما عليه بالموت المؤكد بعد حين. عندما سلمته سلطات جبل طارق للقصر وجد نفسه أمام الحسن الثاني وجها لوجه، فقال له الملك: "أنا الذي قمت ببعثك إلى مستشفى "نيكير" (فرنسا) للعلاج، ألم تعلم أنك ستفقد الحياة بعد 18 شهرا على أبعد تقدير، حسب رأي الأطباء؟".رد عليه الكولونيل :"أعلم أنني سأموت لا محالة، لكني لم أكن أعرف المدة المتبقية لي...".في نفس اليوم حدث أن قذف الكوموندار الكويرة بنفسه في سماء سوق الأربعاء الغرب، بعد أن هزمته الرغبة الحثيثة في الحياة، لكن إلى حين فقط، إذ اعتقلته عناصر من الدرك الملكي، وسلمته للملك بقصر الصخيرات، سأله الحسن الثاني:- " من أمرك بإطلاق النار على طائرتي؟"رد عليه الكومندار الكويرة دونما تردد :- "الجنرال محمد أوفقير..".قاطعه الملك، مندهشا :- "مستحيل..."!!!يردف الكويرة:- "لا فائدة من الكذب الآن "أسيدي" وقد وقعت وانكشف أمري..."تلك بعض نتف من "الحوار" الذي دار بين الملك الحسن الثاني والرجلين اللذين شكلا رأس حربة انقلاب 16 غشت 1972."كان الجنرال محمد أوفقير يعتقد أن بمقدوره اقتراف "الجريمة الكاملة ذلك اليوم"، هذا ما قاله الملك الحسن الثاني في الندوة الصحفية التي حضرها أكثر من 200 صحفي، على خلفية الانقلاب الثاني الفاشل. آنذاك وحده الملك تكلم، وصمت الجنرال محمد أوفقير إلى الأبد.في معرض إجاباته على أسئلة الصحفيين، قال الملك: "بعد إخضاع المعطيات الخاصة بالهجوم على "البوينغ 727" وآثاره وظروف حدوثه، وعن مختلف الوقائع والحيثيات التي رافقته بالإضافة إلى تحاليل الحواسيب وقتئذ، كانت النتيجة، أن إمكانية النجاة لم تكن تتعدى الواحد على المليار"، ثم يضيف الملك في تدخل آخر، وهو يبتسم:"لم يكن الجنرال أوفقير قد أعد مخططا بديلا.. هذه هي غلطته [..] بعد نجاح العملية والتخلص من الملك، كان الجنرال ينوي تحميل المسؤولية لأمقران والكويرة، ثم يقوم بتصفيتهما لإسكاتهما".صمت محمد أوفقير إلى الأبد بعد الإعلان عن الأطروحة الرسمية: "انتحر الجنرال ودفن بسرعة دون إقامة الشعائر المعتادة حسب ما تقتضيه التعاليم الإسلامية في حالة الانتحار". أقيمت مراسيم الدفن بعين الشعير تحت حراسة مشددة ووفق تعليمات صارمة.بعد انقلاب "المشاة"، جاء دور الطيارين قبل مرور أقل من سنة، ومن أشهر الروايات أن الجنرال محمد أوفقير فكر في القضاء على الملك عبر إسقاط الطائرة في البحر أو إرغامها على النزول بالقاعدة الجوية للقنيطرة ليرغمه على التنازل عن العرش قصد الإعلان عن نظام جمهوري عسكري يقوده الجنرال بمعية حكومة كان قد سبق وأن عين أعضاءها، ضمنهم الجنرال حسني بنسليمان، الذي كان آنذاك عامل صاحب الجلالة على إقليم الغرب (القنيطرة)، لكن الكومندار محمد القباج أعدم "حلم" الجنرال أوفقير بعد أن صار بطلا لـ "معجزة" إنزال الطائرة الملكية دون إلحاق أي ضرر بركابها، وعلى رأسهم جميعا الملك الحسن الثاني.من ثمة يفرض هذا السؤال نفسه: كيف أنقذ هذا الرجل الملك؟
كرونولوجيا الأحداثكيف أنقذ محمد القباج الملك الحسن الثاني؟
بين 15 و 17 غشت 1972، وقعت أحداث قلبت رأسا على عقب مآل حياة العديد من الأشخاص، بل مصير بلد وشعب، وعلى مدار أكثر من 82 ساعة تقاذفت أمواج بحر الأحداث مصائر البلاد والعباد، إلا أن المصير النهائي للملك والعرش تحدد في السماء بين فضاء العرائش والرباط. على امتداد 6 ساعات ونيف كان النظام الملكي والجالس على عرشه قاب قوسين أو أدنى من الزوال... آنذاك تدخل القدر لفتح صفحة جديدة في حياة الطيار محمد القباج، الذي كان قد اختار الحياة المدنية بعد طلب إعفائه في الستينات من الجندية، ليعود إليها بعد هذا الحادث في صيف 1972 من طرف أعلى سلطة على هرم قيادتها.بدأت أحداث هذا المسلسل في ليلة 15 غشت 1972. المكان : القاعدة الجوية بالقنيطرة.كان من المنتظر هذا اليوم تسليح طائرات "ف 5" الثلاث بصواريخ ذات توجيه ذاتي، غير أن القاعدة الجوية الثالثة لم تكن قد توصلت بها بعد، ولم يكن متوفرا يومئذ سوى رصاص المدافع الرشاشة وقذائف جو ـ أرض وقنابل أخرى.في تلك الليلة قام أحد الضباط بتجريد الطائرات الحربية القابعة بمدرج القاعدة الجوية من السلاح، كما تنص على ذلك الضوابط العسكرية، إلا أنه بعد لحظة وصل أمر إعادة تسليح بعضها بمدافع رشاشة من عيار 20 مليمتر.وخلال أطوار المحاكمة أقر أمقران أن الجنرال محمد أوفقير أعطى الضوء الأخضر لتسليح الطائرات مساء يوم الاثنين 15 غشت 1972.ويقول أحمد رامي، إن آخر لقاء جمع بين الجنرال محمد أوفقير والكولونيل أمقران والكومندار الكويرة حدث ليلة 15 غشت 1972 بمدينة الدار البيضاء.. ذلك اليوم، عندما عاد الجنرال أوفقير إلى بيته بالرباط حوالي الساعة الثالثة صباحا، كان الأمر قد حسم.وقتها لم يكن أحد في القاعدة الجوية بالقنيطرة يعلم بعودة الملك إلى الوطن عبر الجو، باستثناء قائدها، الكومندار الكويرة والكولونيل أمقران نائب القائد العام للقوات المسلحة الجوية آنذاك.
16 غشت 1972الساعة السابعة صباحا
المكان: القاعدة الجوية بالقنيطرة. تم الإعلان عن حالة الاستنفار بالقاعدة، وزادت حدة هذا الاستنفار مع حضور الكولونيل أمقران بلباس مدني، ورغم أنه كان يضطلع بمهمة نائب قائد القيادة العامة للقوات الجوية، فإنه تسلم ذلك اليوم أمر قيادة القاعدة عوض الكومندار الكويرة، قائدها الفعلي حينئذ.ذلك الصباح توصل رئيس العمليات بأمر الإعداد لخفر الطائرة الملكية القادمة من مطار برشلونة واستقبالها في المجال الجوي الوطني بالشمال فوق البحر الأبيض المتوسط، بفضاء مدينة طنجة.
الساعة الثامنة صباحا
المكان: القاعدة الجوية بالقنيطرةاجتمع الطيارون تحت رئاسة صلاح حشاد، رئيس العمليات، وكانت البداية بالإطلاع على الحالة الجوية وتقارير الأرصاد، بعد ذلك تم تعيين الطائرات المشاركة في خفر الطائرة الملكية. تكلف صلاح حشاد بقيادة طائرة "ف 5 ب" (ذات مقعدين) صحبة "الدكالي" كمرافق، أما "داحو" و"بوبكر"، فإن كل واحد منهما كان يحلق على متن "ف 5 أ" (ذات مقعد واحد)، هكذا تشكلت الفرقة الأولى تحت إمرة القبطان صلاح حشاد.أما الفرقة الثانية، فتكونت من الكويرة والعربي وبوخاليف باستخدام طائرات "ف 5أ" بقيادة الكومندار الكويرة قائد القاعدة الجوية الثالثة. لكن في آخر لحظة عوض "زياد" "العربي".ثلاث طائرات من بين ست (الفرقة الثانية) كانت مسلحة، الشيء الذي أثار انتباه صلاح حشاد الذي استفسر الكولونيل أمقران عن الموضوع.ظل الطيارون بالقاعدة، وبقي الكولونيل أمقران يشرف هناك على الأمور. في نفس الوقت، بمقر القيادة العامة للقوات المسلحة، انعقد اجتماع طارئ بدأ على الساعة الثامنة، أشرف عليه الكولونيل حسن الليوسي للمصادقة على التعيينات التي بلورت بسرعة بعد أن ترقى أمقران إلى نائب قائد القوات الجوية عوض الكويرة على رأس القاعدة الجوية بالقنيطرة.
الساعة الثانية زوالا
اتصل الكومندار الكويرة ببرج مراقبة مطار برشلونة (إسبانيا) للاستفسار عن إقلاع الطائرة الملكية قبل أن يلتحق بطائرته "ف 5أ" بالمدرج، المستعدة للإقلاع.تلقى الماغوتي برقية تؤكد إقلاع الطائرة الملكية من مطار برشلونة.
الساعة الثانية و20 دقيقة زوالا:
توجه الكولونيل أمقران إلى برج المراقبة بقاعدة القنيطرة لقيادة العملية، يلتحق الطيارون بطائراتهم بعد تلقي أمر الإقلاع، آنذاك كانت الطائرة الملكية قد اقتربت من المجال الجوي الوطني.
الساعة الثالثة زوالا و40 دقيقة:
اتجهت الطائرات "ف 5" على علو 9000 متر إلى طنجة، بدخولها أجواء المثلث العرائش – طنجة – تطوان بدأت التحويم في انتظار ظهور الطائرة الملكية.بعد انتظار دام بضعة دقائق طلب الكويرة أحد رفاقه باستطلاع الأجواء المجاورة لمثلث العرائش – طنجة – تطوان، معتقدا أن الملك ربما أمر بتغيير مسار طائرته.فعلا، وحسب المعلومات التي اتضحت في ملف القضية، كان الملك الحسن الثاني قد أمر محمد القباج بالطيران فوق الشواطئ الإسبانية أكبر مدة ممكنة، الشيء الذي أخر موعد ظهور الطائرة الملكية في مجال الجو الوطني بالشمال.كان الملازم "دحو" أول من شاهد البوينغ الملكية، فأعلن في الراديو: "طوليهو".. "طوليهو".. (وهي عبارة انجليزية معروفة لدى طياري المطاردة، وتعني أن الهدف قد انكشف بوضوح).استقرت الفرقة الأولى، بقيادة صلاح حشاد يمين الطائرة الملكية وضبطت مسارها إلى جانبها حسب القواعد المعمول بها في عمليات الخفر كما كان محددا. في حين انطلقت طائرات الفرقة الثانية، تحت قيادة الكومندار الكويرة أمام البوينغ، لتتحرك صعودا ونزولا وهي تقوم بحركات بهلوانية.آنذاك أمرهم محمد القباج بالابتعاد قائلا: "ابتعدوا.. الملك لم يطلب خفر طائرته.. ابتعدوا..." وقتئذ كان الملك بمكتبه الخاص على متن طائرته منهمكا في حديث مع شقيقه الأمير مولاي عبد الله، في حين كان الدليمي وباقي ركاب البوينغ جالسين على كراسيهم في الجناح الخاص بهم.الساعة الثالثة و42 دقيقة زوالا:على حين غرة أمر الكومندار الكويرة، صلاح حشاد وفرقته عبر الراديو: "ابتعدوا.. اذهبوا إلى حال سبيلكم.. ابتعدوا.."قبل إطلاق النار، يقول أحمد رامي، أمر الكومندار الكويرة الطائرة الملكية بالهبوط في القاعدة الجوية بالقنيطرة، غير أن الملك رفض هذا الأمر جملة وتفصيلا، آنذاك بدأ الكويرة بإطلاق النار على الطائرة الملكية.في تلك اللحظة نهض الملك من مكتبه وأخذ ينظر من النافذة، تارة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار، ثم توجه إلى مقصورة القيادة، حسب ما تسرب من معلومات.عمت الفوضى وقتئذ بين الركاب في الجناح الخاص بهم، وتزاحموا على النوافذ التي احتل إحداها أحمد الدليمي ولم يغادرها حتى اختفت طائرات "ف 5" عن انظاره.آنذاك انطلقت الرصاصات الأولى من رشاش طائرة الكومندار الكويرة، لكن سرعان ما اكتشف أن رشاشه لم يعد يتحرك بفعل عطب غير متوقع، سمعه الربابنة يصيح عبر الراديو ويسب باستعمال بعض الألفاظ النابية.تنحت طائرة الكويرة جانبا وتقدم "زياد" ليمطر الطائرة الملكية بوابل من الطلقات دون أن يصيب هدفه.تلاه بوخاليف الذي أخذ يرشق البوينغ برشاشه، حيث تمكن من إصابتها في عدة أماكن، سيما في أحد محركاتها.وقتئذ صاح بوخاليف في الراديو: "قضي الأمر... لقد أصبتها...".في ذلك الوقت قال "الدكالي" لصلاح حشاد، والرصاص يلعلع في السماء: "ما العمل الآن؟.. لماذا لا نفلت بجلدنا إلى إسبانيا". لحظتئذ كان بوخاليف قد تمكن من إصابة المحرك الثاني للطائرة الملكية، بعد إنهاء مخزونه من الرصاص.انطلق صوت الكويرة عبر الراديو من جديد قائلا:"وداعا يا رفاق.. سأصطدم بالبوينغ من أجل وطني.."توجهت مقدمة طائرة "ف 5" نحو مقصورة قيادة البوينغ، ثم انبجس الكويرة منها، ليظهر بعض لحظات معلقا تحت مظلته في السماء.استمرت طائرته في الهبوط في اتجاه البوينغ لكنها انحرفت بعض الشيء عن هدفها وكادت تصطدم بإحدى جناحيها، لكن الطائرة الملكية نجت من الاصطدام بأعجوبة.وحسب أحد طياري "لارام"، وقع ذلك بفعل عوامل الجو والرياح، سيما وأن الكويرة غادر مقصورته، مما خفف من وزن الطائرة التي تلاعبت بها الرياح فسقطت كل حسابات الكاميكاز في الماء.بعد ذلك استقرت طائرة بوخاليف فوق البوينغ في وقت كانت النار قد شبت بإحدى محركاتها ودخان كثيف السواد يلف جزءا من جناحها، فأفرغ مخزون وقوده (الكيروزين سريع وشديد الاحتراق) فوقها، ولحسن الحظ أبعدت الرياح الحمولة بفعل السرعة التي كانت تهبط بها الطائرة الملكية المصابة، وإلا لكانت قد تحولت إلى كرة نارية قبل أن تتناثر أجزاؤها بفعل الكمية الكبيرة من الكيروزين التي كانت متوفرة بخزاني جناحيها الاثنين، سيما وأن أحد المحركات كان يحترق تحت وطأة النار المشتعلة فيه.بين الساعة الرابعة والخامسة والنصف عم الهلع صفوف ركاب الطائرة، آنذاك كان الملك يقف بصعوبة وراء محمد القباج بفعل الارتجاجات، كانت لحظات حرجة بين الحياة والموت..يضع الملك الحسن الثاني يده على كتف محمد القباج، ويهمس له بحذر في أذنه اليمنى، قائلا :"قل لهم أن يوقفوا رشقنا بالرصاص.. لأن الملك أصيب إصابة خطيرة.. وتظاهر بالامتثال لأوامرهم...".رغم بداية نشوب حريق بالطائرة، أسرع الملك إلى مقصورة القيادة غير مبال بالمضيفة التي كانت تطلب منه استخدام قناع الأوكسجين.. أمر "الستيوارت" الذي كان واقفا بالباب بترك المكان.. دخل المقصورة ووقف وراء الربان محمد القباج، ثم انحنى عليه، متابعا مشهد إمطار طائرته بالرصاص من طرف إحدى طائرات "ف5".وبعد لحظة أمر الملك محمد القباج بإرسال برقية عبر الراديو، مفادها أن الملك أصيب إصابة خطيرة.آنذاك كان الكويرة قد قرر القيام بدور "الكاميكاز"، لكن غريزة حب الحياة خانته ونفذ بجلده في آخر لحظة. وبعد ذلك عوضه بوخاليف، مصيبا المحرك الثاني.بدأت الطائرة الملكية في الانحدار صوب مدرج هبوط الطائرات بالقاعدة الجوية بالقنيطرة.. ومرت على مسافة قريبة جدا من السجن المركزي.قبل هذا، ومنذ أن أطلق الكويرة رصاصته الأولى، كان أحمد الدليمي يكرر بعض الإشارات دونما توقف محاولا تمرير رسالة غير مفهومة إلى أحد طياري الفرقة الأولى، وغالب الظن أنه كان يحاول إخبار صلاح حشاد بأمر ما، هذا الأخير لم يوله أي اهتمام لصعوبة رؤية ما يقع داخل الطائرة الملكية، وذلك ما أكده مرافقه الدكالي.ربما أيقن كل من زياد وبوخاليف، أن البوينغ ستنزل فعلا بالقنيطرة، لذا استعد زياد للهبوط وتبعه بوخاليف بعد أن حاول إفراغ ما تبقى من وقوده على البوينغ.في تلك اللحظة، وخلافا لقواعد الطيران، أعاد محمد القباج تشغيل المحرك رغم نشوب النار به، ومكنته هذه المخاطرة من التحكم من جديد في البوينغ، ثم غير الاتجاه وبدأ في الصعود قاصدا مطار الرباط ـ سلا.آنذاك حطت طائرات "ف5" بمدرج القنيطرة، وبعد التزود بالوقود والسلاح أقلعت أكثر من طائرة متوجهة إلى الرباط بعد أن صاح بوخاليف في اتجاه الطيارين: "ليتبعني من يريد..". كما أمر الكولونيل "أمقران" "مرحاج" وطيارا آخر بالقيام باستطلاع جوي بالمطار والتقاط صور. وذلك بعد أن أسر لـ "العربي" بالتوجه إلى الرباط، اعتقادا منه، أنه في حال فشلت محاولة النيل من الملك في الجو، سيحسم الجنرال محمد أوفقير الأمر على الأرض بالرباط، سيما وأنه كان قد أعد فرقة الدبابات للقيام بالمهمة.
الساعة الرابعة و50 دقيقة زوالا:
بعد التزود بالوقود والأسلحة من جديد حلقت طائرتا "زياد" و"بوخاليف" متبوعتين بطائرات أخرى في اتجاه مطار الرباط ـ سلا.آنذاك كان الانقلاب قد فشل وبدأ أمقران وطيارون آخرون ـ مكثوا بالقاعدة الجوية بالقنيطرة ـ يفكرون في المآل.
الساعة الخامسة و15 دقيقة زوالا:
في الجناح الشرقي بمطار الرباط ـ سلا، كان الوزراء وموظفون وضباط سامون في انتظار استقبال الملك الحسن الثاني الذي غاب عن الوطن 20 يوما، لم يكن أحدهم يعلم بما حدث في السماء بين طنجة والقنيطرة.ظهرت الطائرة الملكية في الأفق تتبعها سحابة من الدخان الأسود الكثيف، وهي تتأرجح يمينا وشمالا..وقتئذ كان الجنرال محمد أوفقير ببرج مراقبة مطار الرباط في انتظار القيام بإنجاز آخر مشهد في عملية "البراق"، ومن ثم إرغام الملك على التخلي عن الحكم باستخدام وحدة عسكرية تحت إمرة الكولونيل "أوباجة" الذي كان بمعية دباباته في انتظار الأوامر. لكن الجنرال فضل ـ لغرض في نفسه ـ إصدار أمره للكولونيل بإخلاء المكان والانسحاب إلى ثكنته، قبل أن يغادر هو نفسه المكان بصمت ودون إثارة انتباه الحاضرين.بعد ذلك اتصل الجنرال ببرج مراقبة قاعدة القنيطرة لمعرفة الضباط الحاضرين بها وقتئذ، ثم أصدر أمره للجنرال بنعبد السلام قصد التوجه إلى قاعدة القنيطرة لسحق الخونة الذين تطاولوا على الملك للدوس عليهم بدباباته. بعد الساعة الخامسة بدقائق معدودات، حطت الطائرة الملكية بالمطار، مع أنها انحرفت قليلا عن مسار الهبوط وتوقفت بجانب مدار المدرج بإرادة من محمد القباج تلافيا لاحتكاك الطائرة بالإسفلت، سيما وأنها كانت قد فقدت إحدى عجلاتها، تجنبا لاشتعالها وتعرض ركابها للموت احتراقا.. لقد سادت فوضى عارمة بالمطار وبالقاعة الشرفية بعد أن بدأت طائرات "ف 5" تمطر بالرصاص كل شيء يتحرك.. انطلق الموكب الملكي الرسمي في جو من الفوضى.. وامتطى الملك الحسن الثاني سيارة عادية تم احتجازها من طرف إدريس بنعمر أو محمد المديوري، حسب روايتين. اتجه الموكب الرسمي إلى القصر الملكي بالرباط تحت وابل من الرصاص، في حين اتجهت السيارة التي تقل الملك إلى قصر الصخيرات متجنبة عبور الطرقات الرئيسية.يقول مصدر مطلع، في البداية رفض الملك الحسن الثاني مغادرة الطائرة الملكية، إلا أن محمد القباج ألح عليه، ورغم أن الملك لم يبد موافقته الصريحة، رفض ربانه الانصياع لرغبته وحرص على اقتياده إلى قاعة الانتظار في ظروف ما زالت لم تتجل بعد كل حيثياتها.
الساعة الخامسة والنصف زوالا:
امتطى أمقران طائرة هيلكوبتر بمعية اليزيد الميداوي للالتحاق بالجنرال محمد أوفقير بالرباط، لكن حال وصوله المطار، فهم أن الرياح قد هبت في غير الاتجاه المحدد، فقرر قيادة طائرته صوب جبل طارق، جنوب اسبانيا. وقبل مغادرة المجال الجوي الوطني أعلن عبر الراديو أن اسم المدبر للانقلاب يبدأ بحرف "أو" (بالفرنسية)، ثم عبر المضيق ليحل ضيفا ـ غير مرغوب فيه ـ على الإنجليز الذين أعادوه للمغرب بعد جملة من الضغوطات والتهديدات، منها قطع الماء الصالح للشرب على الصخرة.آنذاك كان الانقلاب قد فشل، وحسب أحمد رامي، يتحمل الوافي الكويرة المسؤولية كاملة في فشل هذه العملية، لأنه لم يتحقق من سلاح طائرات "ف5"، لقد تم تزويدها برصاص التدريب وليس برصاص المعركة المتفجر، وربما قد حدث أيضا خطأ في صناديق الذخيرة، خصوصا وأن أمر تسليح الطائرة صدر على حين غرة.
الساعة الخامسة و50 دقيقة زوالا:
بعد وضع اليد عليه بين سوق الأربعاء الغرب وشاطئ مولاي بوسلهام بإقليم القنيطرة، من طرف فرقة محلية للدرك الملكي، اقتيد الكومندار الوافي الكويرة على وجه السرعة إلى القصر الملكي بالصخيرات، هناك خضع لاستنطاق بحضور الملك الحسن الثاني، فكشف عن المستور.آنذاك كان "زياد"، "بوخاليف"، "كمون"، "بينوا"، "البحراوي" وآخرون يتبادلون التهم فيما بينهم بمدرج القاعدة الجوية بالقنيطرة، في حين انزوى صلاح حشاد في ركن بمكتبه محاطا بجدار من الصمت الرهيب محاولا الفهم عبر استعادة شريط الأحداث.وقد قال أحمد رامي: "حين كان الجنرال محمد أوفقير ببرج المراقبة بمطار الرباط ـ سلا، بلغت إلى مسمعه الاستغاثات الصادرة عن الربان محمد القباج عبر الراديو، والذي قال: "إن طائرتنا هوجمت والملك قد مات..."، بعد هذا الكلام اعتبر الجنرال أن عاهل البلاد قد لقي فعلا حتفه.. امتطى سيارته وتوجه إلى ثكنة مولاي إسماعيل، حيث كنت أنتظره هناك.. عندما وصل باب الثكنة ناداه أحد الجنود من نافذة إحدى البنايات دون انتظار.. ناداه بصوت مرتفع غير معتاد، سيما وأنه صادر من طرف مرؤوس لأعلى رئيس له بعد الملك... وأخبره أن صاحب الجلالة يطلبه توا بالهاتف...".ويضيف أحمد رامي:"لقد قيل كذلك، إن الخطأ القاتل الذي ارتكبه الجنرال أوفقير، هو مغادرته لبرج مراقبة مطار الرباط ـ سلا، وحين أبعد إمكانية تدخل فرقة الدبابات لمحاصرة المطار كما كان مقررا في الخطة البديلة، في حالة فشل إسقاط الطائرة الملكية أو إرغامها على النزول بقاعدة القنيطرة".
الساعة السادسة مساءا وبضع دقائق.
اتصل صلاح حشاد بالعربي الذي كان ببرج مراقبة قاعدة القنيطرة وأمره بتوقيف أي حركة طيران ومطالبة الربابنة بالعودة ووضع الطائرات الحربية بموقعها.. إلا أنه "لا حياة لمن تنادي".مع اقتراب حلول الظلام حطت طائرات "ف 5" سواء التي قصفت مطار الرباط ـ سلا، والموكب الملكي وقصر الرباط، أو التي تكلفت بالاستطلاع والتقاط الصور بمدرج القاعدة.. وتبين أن كل شيء قد انتهى.. اجتمع الضباط بنادي القاعدة.. ساد القلق والتوجس من الآتي.. ولم يكن من مخرج سوى الانتظار.
الثامنة والنصف مساء
اوصلت المدرعات إلى قاعدة القنيطرة.. في البداية ظن البعض أن الجنرال محمد أوفقير قام بما كان عليه أن يقوم به وبعث بالقوات لدعم ومساندة القاعدة الجوية الثالثة.. لكن المدرعات طوقت المكان وأحاطت بالطائرات الحربية الجاثية على أرضية المدرج، فتمت المناداة على الجميع وأمروا بالانبطاح على الأرض ووضع الأيدي على الرقاب تحت وابل من السب والتنكيل.. وأسدل الستار باعتقال الجميع.
بعد الساعة الثامنة والنصف ليلا
وصل الجنرال أوفقير إلى القصر الملكي بالصخيرات، بعد أن قام بالاتصال بزوجته فاطمة الشنا وابنته مليكة لطمأنتهما.كانت تلك الليلة بيضاء حضرها إلى جانب الملك الحسن الثاني، أحمد الدليمي ومولاي حفيظ العلوي وآخرون.. ولج الجنرال البلاط ماشيا على قديمه وغادره جثة هامدة.. وقال الملك:" انتحر الجنرال الخائن"، في تلك الليلة البيضاء مثل بين يدي الحسن الثاني أمقران، الكويرة، زياد وبوخاليف.. وكانت الحصة الأولى للاستنطاق الذي حدد مآل المحتجزين آنذاك بالقاعدة الجوية الثالثة بالقنيطرة.
17 غشت 1972، الساعة الرابعة صباحا
أشرف كل من الجنرال بنعبد السلام، نائب قائد القيادة العامة للقوات المسلحة، والكوموندار حميدو لعنيكري (الدرك الملكي)، والكومندار بوطالب (القوات الجوية) والقبطان الموش (القوات الجوية) على اقتياد معتقلي القيادة الجوية الثالثة بالقنيطرة إلى القيادة العامة بالرباط تحت حراسة مشددة.. وهناك بدأت مسلسلات "سين وجيم".. وكانت انطلاقة النزول إلى الجحيم.