السلام عليكم ورحمة الله تعالى
بعض الأعمال السينمائية التي شاهدتها لا تستطيع مغادرة بالي ولا أنساها بسهولة مهما حاولت, لذلك
أقرّر الكتابة عنها, علّني أوفّيها حقها من الكلام, الفيلم الذي كتبت عنه هنا من النوع القصير, لن
تستغرقكم مُشاهدته الكثير من الوقت ولن تحتاجوا لتفكير كبير من أجل فهمه, استمتعوا بقراءة ما
لدي ثم انطلقوا لمشاهدته بأنفسكم دون تردّد
لم أشاهد الكثير من الأفلام القصيرة حتى تترك لدي انطباعا مُعيّناً, لكن سمعت ممن يشاهدونها بأنها هادفة أكثر من الأفلام الطويلة المُعتادة, لكون
قصصها مُختصرة وتصل لنهايتها دون أن تشعر, هذا الفيلم ينطبق عليه الكلام الذي قلته, فمدّته لا تتعدى 17 دقيقة, نصفه رسوم متحرّكة والباقي
واقعي, مزج ذكي بين العالمين يستحق الإشادة
تأخذنا أحداث الفيلم لعالم سيريالي يعيش فيه موسيقي عبقري, عالمٌ طافٍ لا يوجد فيه غيره ومعه دمية متكلّمة, تساعده في العزف على بيانو داخل قاعة
أوبرا عملاقة, لكن لا وجود لأحد كي يستمع لموسيقاه, ما عدا فتاة صغيرة تمرّ بين الفينة والأخرى هناك, ثم تغادر بسرعة إذا ما التقت عيناهما
كتب نصّ الفيلم Till Nowak, صنع عالماً من حالة نفسية تُعرف لدى الأطبّاء ب"الإنفصال المُستدير", حيث يعيش المُصاب بها بين الواقع والخيال
يتخيّل أشياء من صنع عقله الباطن ويظنّ أنها حقيقة تقع فعلاً أمامه, إن أردتُ شرح الأمر من منظور طبّي فسأقول أن إدراك المريض يتقلّص ويُضغط
داخل ما يُشبه العنقود المُستدير, وهو نفسه العالم الطّافي الذي يعيش فيه بطل القصّة, هناك لا توجد سوى الوحدة, وتسوء الأحوال النفسية للمريض كلّما
قضى وقتاً أطول في تلك الحالة
هذا الفيلم يُسلّط الضوء على الحالة الفضولية للعقلية الألمانية الحديثة. الأفكار القديمة والمُعتقدات, سرعة التمييز والتصنيف, رفض احتمالية الخطأ!
مثال : الإبنة تقول أن أباها ينوي تعليمها العزف على البيانو والأمّ تجيب بالرفض! ولن تسمح له بفعل ذلك, كيف يمكن حدوث ذلك؟, يأتي الجواب
كما سيراه مُتابع الفيلم "أن الأب ما كان ليعيش في الشارع لو أنّه قادر على تعليم ابنته العزف!". ثم نأتي لأناس منفتحون, جدّ منفتحين, بحيث لديهم
استعداد لتقبّل جميع الأفكار والطُّرق, والتي قد تكون جيّدة وسيئة في الوقت نفسه. و هذا منظور اجتماعي لشخص غير ألماني وُلد وعاش في ألمانيا
لسنين طويلة
علي أيّ حال, الجانب الشخصي للقصة قدّم بشكل خلّاق حالةً تقع في كل عائلة حول العالم, مهما كانت خلفيتها الثقافية أو الدينية, حيث نرى الوالدين
في حالة انفصال عن بعضهما البعض بسبب فشل واضح في أحدهما, ثم يشعر أحد الوالدين بضرورة حماية طفلهما من الوالد الفاشل في الجهة الأخرى
في الواقع هذا يحصل دائما في العلاقة الزوجية, لا يوجد زواج لا تعتريه مشاكل, هذه هي الحقيقة الثابتة, لكن من الواجب عليهما التفكير ما في صالح
الطفل الذي تقع مسؤوليته على عاتق كليهما, فلدينا ابنة تتوق لأبيها بطبيعة الحال, لكن مخاوف الأمّ المقبولة في مواجهة مخاوف الأب التي يُساء
فهمها من شأنها أن تتسبّب في التفريق بينهما لوقت أطول
هذه هي القضيّة التي يثيرها الفيلم, نأتي للأخراج, عمل Till Nowak على المَشاهد كان فخماً جدّاً, احترافية واضحة منه مع لمسات ذكية بكل مشهد
صُوره أنيقة,جميلة مُتقنة الصنع, شديدة البساطة والواقعية, لكنها عميقة وجادّة, إضافة لكونها مدروسة بعناية, حزينة ومُتفائلة في الوقت نفسه, باختصار
عشت مع أحداث الفيلم لقطة بلقطة وكذلك نفس الشيء سيحصل لكم
موسيقى جميلة من (أندرياس رادزويت) تجعلك تعيش الأحداث وتتامّل حالة العائلة المُهدّدة بالقصة
8/10