كثيرا ما نُقدِّر ـ نحن المسلمون ـ مساجد الله تعالى امتثالا لقوله: ?فِي بُيوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهِ فِيهَا بِاَلْغُدوِّ وَاَلْآصَالِ? [1]، والمراد بالإذن الأمر برفع مقدارها بعبادة الله تعالى فيها [2]، فعن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الآية قال: {هي المساجد تُكرَّم ويُنهى عن اللغو فيها، ويذكر فيها اسم الله، يُتلى فيها كتابه} [3]. وكثيرة هي الأحاديث النبوية التي تنص على هذا الأمر الإلهي وتحث عليه، والمسلمون عبر تاريخهم الزاخر كانوا أشد الناس حفاظا على أماكن العبادة، فلم يخرجوا عن المقاصد التي لأجلها أمر الله تعالى تشييد المساجد وبناءها، كالصلاة والذكر والعلم، والبث في الأمور الجليلة التي لها صلة بالدين، دون الركون إلى اللهو واللعب فيها، كرفع أوتار ومزامير الشيطان والغناء والرقص. ولما قلّ في النفوس وازع التدين واعتراها وابل الهوى، زالت مكانة المساجد بين الناس، فأصبح عددٌ منها تمثالا للنقوش ورمزا لطقوس ما أنزل الله بها من سلطان. فبدلا من أن ينهض العلماء بإعادة المكانة السامية للمساجد نقف عند بعضهم يفتون بالرقص فيها، فأحد أعضاء رابطة علماء المغرب يصرح بذلك قائلا: {الرقص مباح في الإسلام، حتى في المساجد، حيث إن الحبشة رقصوا في حضرة الرسول الكريم في المسجد} [4].
وهذا الكلام الذي تجرأ به يُفهم منه الدلالة على إباحة الرقص بالآلات الموسيقية، لأن عبارته في عرفنا اليوم تُفسر على هذا النحو، فتأخير البيان عن وقت الحاجة غير لائق بالعامي فضلا عن عالم بفقه النوازل، ولقد اعتمد فيما قال على رواية الإمام أحمد في مسنده عن عبد الصمد بن عبد الوارث بإسناده عن أنس بن مالك قال: {كَانَتْ الْحَبَشَةُ يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرْقُصُونَ وَيَقُولُونَ مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقُولُونَ، قَالُوا يَقُولُونَ مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ.} [5] فحديث انفرد به الإمام أحمد دون باقي أصحاب السنن، وراوي الحديث عبد الصمد بن عبد الوارث من الثقات الذين يُروى عنهم لكنه كان يخطئ [6]. ولمَّا حكم العلماء بصحة الحديث قالوا إن معنى الرقص في الحديث اللعب بالحراب، لأن كلمة يَزْفِنُونَ التي قابلتها كلمة يرقصون محمولة على اللعب بالرماح [7]، والروايات الصحيحة جاء فيها خبر الحبشة يلعبون بحرابهم، والفرق بين اللعب بالحراب ـ التي هي الرماح ـ وبين الرقص بالأبدان، كالفرق بين النور والظلمات. فقد أخرج البخاري بإسناده عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت:{ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ.} [8] وفي رواية قالت: {رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَسْأَمُ فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ.} [9] وأخرج مسلم بإسناده عن عروة قال: قالت أمنا عائشة: {وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى لَعِبِهِمْ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ، فَاقْدِرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ حَرِيصَةً عَلَى اللَّهْوِ.} [10]
فهذه الروايات وغيرها تفيد أن الحبشة كانوا يلعبون برماحهم في الحضرة النبوية بالمسجد، وأن لعبهم هذا كان استعراضا للرماية ومدعاة إلى تعلمها حتى تنضاف إلى الجهاد، قال النووي: ) فيه جواز اللعب بالسلاح ونحوه من آلات الحرب في المسجد، ويلتحق به في ما معناه من الأسباب المعينة على الجهاد وأنواع البر ( [11] . ثم إن الحبشة فرحوا بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فعبَّروا عن فرحتهم بطريقتهم تلك، للحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه بإسناده عن أنس بن مالك قال:{ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، لَعِبَتْ الْحَبَشَةُ لَقُدُومِهِ فَرَحًا بِذَلِكَ، لَعِبُوا بِحِرَابِهِمْ.} [12] قال الشوكاني: ) فإن اللعب هو الحركات الصادرة منهم من تقليب حرابهم بأيديهم وحركة أبدانهم. ( [13] ذلك أنهم كانوا بارعين في فن الرماية إلى درجة اللعب بالحراب، فأحب الرسول صلى الله عليه وسلم النظر إلى براعة لعبهم. والذي يدل على ذلك أن وحشي بن حرب الحبشي قال: ) كنت عبدا لآل مطعم، فقال لي ابن أخي مطعم إن أنت قتلت حمزة بِعَمي فأنت حر، فانطلقت يوم أُحُدٍ معي حربتي، وأنا رجل من الحبشة ألعبُ بها لَعِبَهم ( .. [14] فكلامه " ألْعَبُ بِهَا لَعِبَهُم " أي أتقن رماية الحربة إتقان باقي الحبشة، وكلمة "ألعب" أبلغ تصوير لهذا الإتقان.
بهذا تبين لنا أن الحبشة كانوا يستعرضون مهاراتهم في رماية الحراب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما فيه من الإقبال على تعلم هذا الفن الحربي حتى تقوى شوكة الإسلام بتقوية وسائل دفاعه الموظفة في الجهاد، فقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يمنع من ترويج معدات الجهاد في المسجد، فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله أَمَرَ رَجُلًا كَانَ يَتَصَدَّقُ بِالنَّبْلِ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يَمُرَّ بِهَا إِلَّا وَهُوَ آخِذٌ بِنُصُولِهَا.} [15] قال النووي: ) وهو الإمساك بنصالها [16] عند إرادة المرور بين الناس في مسجد.. ( [17] ، لذا فالمسجد كما كان على عهد النبوة موضعا للعبادة، فكذلك كان مؤسسة عسكرية يُعرض فيه أساليب الجهاد ومعداته لا ناديا للرقص والعبث كما يزعم البعض.
منقول من مقالات ذ. سليمان القراري
هوامش:
1- النور/36
2- الدر المنثور لجلال الدين السيوطي 6/178 ، دار الفكر، بيروت، ط./ 1993م
3- فتح القدير للشوكاني 4/37 ، دار الفكر ، بيروت.
4- جريدة المساء اليومية المغربية العدد: 641 تاريخ 11-12 أكتوبر لعام 2008م. موافق 11-12 شوال 1429?.
5- أنظر: مسند الإمام أحمد مسند أنس بن مالك.
6- تهذيب التهذيب لابن حجر 6/291 ـ دار الفكر ـ بيروت ط1/1984
7-شرح النووي على صحيح مسلم لأبي زكريا النووي 6/186 - دار إحياء التراث العربي - بيروت ط2/1392هـ.
8- أنظر: صحيح البخاري كتاب الصلاة باب أصحاب الحراب في المسجد.
- 9 نفس المصدر كتاب النكاح باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة.
10- أنظر: صحيح مسلم كتاب صلاة العيدين باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد.
11- شرح النووي على صحيح مسلم 6/184
12-أنظر: سنن أبي داود كتاب الأدب باب في النهي عن الغناء.
13-- السيل الجرار للشوكاني 4/131 تحقيق: محمود إبراهيم زايد - دار الكتب العلمية - بيروت ط1/1405هـ
14-سنن البيهقي الكبرى لأبي بكر البيهقي 9/97 تحقيق: محمد عبد القادر عطا - مكتبة دار الباز- مكة المكرمة. ط/ 1414هـ
15- أنظر: سنن أبي داود كتاب الجهاد باب في النبل يدخل به المسجد.
16-والنصول والنصال جمع نصل، وهو حديدة السهم.
17- شرح النووي على صحيح مسلم 16/169
_______