جبرانيات: بَين جُبران وَفليكس فارس "رسَائل وَذكريات وانطباعات"
آخر
الصفحة
لبنتى

  • المشاركات: 113917
    نقاط التميز: 566
مشرفة سابقة
لبنتى

مشرفة سابقة
المشاركات: 113917
نقاط التميز: 566
معدل المشاركات يوميا: 16.8
الأيام منذ الإنضمام: 6785
  • 05:22 - 2008/12/14

جبرانيات: بَين جُبران وَفليكس فارس "رسَائل وَذكريات وانطباعات" 

 عيسى فتوح

مقدمة

حين قررت منظمة اليونسكو أن تجعل عام 1981 عام "جبران" الدولي للاحتفال بذكراه، بإقامة الندوات، ونشر أكبر عدد ممكن من الدراسات، وعقد حلقات البحث في الصحف والمجلات والإذاعات. وكان جبران أجرأ من ثار على الأساليب القديمة، وفتح للكلمة آفاقاً جديدة، في عهد شل فيه الفكر، وجمد اللفظ، وانحسر الإبداع، وقد تهافت الناس في الشرق والغرب على قراءة كتبه الرائعة، ولاسيما "النبي"، ولا تزال بعض كنائس أميركا حتى اليوم ترتل مقاطع من هذا الكتاب العظيم الذي قامت عليه شهرة جبران.

عندما زارت ابنة ملك سكيم ـ في أقصى جبال التيبت ـ لبنان قبل عدة سنوات، للتعرف على وطن جبران، قالت إن شعب التيبت لا يقرأ إلا الكتب الدينية ودواوين الشعر وقصص جبران، ويسرني أن أساهم بهذه الدراسة في عام جبران الدولي، وقد خصصتها للصداقة الحميمة التي كانت تربطه بالأديب اللبناني فليكس فارس الذي زار جبران في أمريكا، وتعرّفه عن كثب، وقضى معه سبعة أشهر، كان يرافقه خلالها كظله.

***   

وقد يجهل الكثيرون تلك الصداقة الحميمة التي كانت تقوم بين جبران خليل جبران، وفليكس فارس، مؤلف كتاب: "رسالة المنبر إلى الشرق العربي"، والخطيب اللبناني المتمصر، الذي عاش في الاسكندرية، وعمل في الصحافة والأدب.

حين أصدر ميخائيل نعيمة كتابه "جبران خليل جبران" على أثر وفاته سنة 1931 وعرى فيه صديقه كل التعرية، وكشف عن الكثير من أسراره وخصوصياته مع ميشيلين وماري هاسكل بنوع خاص، تصدى له فليكس فارس في كتابه "رسالة المنبر..." ودافع عنه بإصرار دفاع المحب المعجب إلى أبعد الحدود، فقد كان يشفق على جبران، ويرى فيه قمة شامخة من قمم الإبداع والعبقرية والإلهام.

أما كيف نشأت العلاقة الودية بين جبران وفليكس فارس، فذلك يعود إلى أن جبران كان قد وضع رسماً لفليكس فارس على طريقته الخاصة، مثلما وضع لغيره من الأدباء القدماء والمعاصرين وكان كل منهما معجباً بالآخر من بعيد، وعندما حدثت المجاعة في لبنان، رحل فليكس فارس مع صديقه  الفنان اللبناني جان دبس، ليطوفا ربوع الولايات المتحدة الأميركية، ويتصلا بالمهاجرين اللبنانيين لحثهم على التبرع لذويهم وأقربائهم المقيمين الذين فتكت بهم المجاعة، وقد حمل جان دبس معه مجموعة من منحوتاته التي تعبر عن المشاهد المؤسية التي خلفتها المجاعة، فاستطاع أن يثير بعرضها عواطف اللبنانيين، ويؤثر في مشاعرهم. أما فليكس فقد اقتصر عمله على الخطابة في النوادي والجمعيات الخيرية، داعياً أبناء وطنه إلى العودة أو المساعدة، ولم الشعث للخروج بلبنان من محنته القاسية، فوقف على المنابر أكثر من خمسين مرة، وفي كل مرة كان يلهب النفوس، ويثير العزائم، ويحيي الهمم.

التقى فليكس لأول مرة جبران مساء السابع والعشرين من كانون الثاني سنة 1922 في نيويورك، في منزل الأديبة السيدة ماري خوري التي كانت قد دعت جبران وفليكس فارس وجان والياس دبس لتناول طعام العشاء على مائدتها، وكانت ماري سيدة راقية، تبادلت مع جبران رسائل كثيرة لا يعرف مصيرها الآن. وقد دام الحديث بينهما حتى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل... في هذا المساء صافحت يد فليكس يد جبران، وغارت نظرات كل منهما في نظرات الآخر. إلا أنهما عادا فاجتمعا مرات أخرى في بوسطن ونيويورك، وفي كلم مرة كان فليكس يسجل انطباعاته عن جبران في دفتر يومياته، ولما توفي جبران في العاشر من نيسان سنة 1931، نشر فليكس فارس مقتطفات من هذه المذكرات والانطباعات والرسائل المتبادلة بينهما، وأرسل لمي زيادة ـ التي كانت فجيعتها بجبران أكبر من فجيعتها  بوالديها ـ شيئاً منها، فكانت كلماته بلسماً لجروحها النازفة، وعزاء لخاطرها المكسور. يقول فليكس فارس:

"عندما اجتمعت بجبران للمرة الأولى لمحت فيه ذلك التجلد المعلن في الأحشاء تمرداً على الحياة".

"رأيته يغالب أنفاسه مغالبة، فتتفرج شفتاه عن ابتسامة كلها مرارة وحلاوة، ووقف معي بعد ذلك على منبر الأكاديمية الموسيقية في نيويورك ليقدمني لمواطنينا المهاجرين، فقال كلماته بخفقان قلبه، لا بنبرات أنفاسه، فسادت تلك الكلمات جو القاعة، كأنها همس أرواح تحوم فوق كل جوانبها".

"ورأيته في قاعته الواسعة التي يملكها في بناية رجال الفن، يحيط به أعضاء الرابطة القلمية، بعد أن خرجنا من المجمع العلمي الأميركي في الشارع الخامس، حيث كنت ألقيت محاضرة بالفرنسية عن سورية ولبنان، وكنا كلنا ضيوف جبران ذلك المساء، نحيي ليلة من ليالي جبلنا الأشم، في تلك القاعة الواسعة، حيث كانت ريشات وفراشي عبقري  الشرق ومكتبته ومعدات عمله في الرسم، وهنالك في متحف الفن، ومستلهم الفلسفة والشعر، كان جبران كاهن هذا المعبد، يقوم بنفسه بخدمة ضيوفه، على رنين أوتار العود، وصوت الأستاذ وليم كاتسفليس ـ عضو الرابطة القلمية".

كان جبران يعجب بقصيدتين لفليكس فارس، الأولى بعنوان "تربة الجدود"، والثانية بعنوان: "مناجاة النفس" أنشدهما وليم كاتسفليس في إحدى سهراتهما بصوته الرائع، ولما عاد فليكس إلى الوطن، بعث له جبران بترجمة قصيدة "تربة الجدود" إلى الإنكليزية، مع رسالة يقول فيها:

"أخي فليكس: سلام على روحك الطيبة وقلبك الكبير".

"لقد سررت جداً بزوال الألم عنك، ورجوع العافية إليك. نحن يا أخي بحاجة ماسة إلى مواهبك، فلا تدع العلة أن تقف حاجزاً بين مواهبك وحاجتنا".

"طيه تجد ترجمة قصيدتك الجميلة إلى الإنكليزية. لقد تصرفت فيها بعض التصرف، فجاءت كما يريدها الشاعر، لا كما يريدها اللغوي المدقق، أبعدنا الله عن جميع المدققين!".

أنت بالطبع تعرف حجم وشكل فرحي بنجاح مشروعكم في هذه البلاد، ولكنني أرجوك يا فيليكس أن لا تجهد نفسك، ولا تحمل قواك فوق طاقتها".

"بلغ سلامي إلى جان والياس (دبس) مشفوعاً بمودتي وأحسن تمنياتي، والله يحفظك أخاً عزيزاً لجبران. مساء الاثنين". وتقع القصيدة في خمسة مقاطع، أكتفي بذكر المقطعين الأول والثالث منها:

من لوحة التوديع للبحر

 

للباسم المملوء بالغدر

لرحمة الأنواء والذعر

 

لمعقل التعذيب والأسر

 

لعلة الصدر

 

أنى لهذا الفجر أن يطلع

 

ونجمتي في موطني تلمع

وبيننا الأبعاد أن لا تقطع

 

ما ينفع المحكوم ما ينفع

 

تعلة الذكر

 

بعد انقضاء سهرة جبران وفليكس فارس في قاعة المجمع العلمي الأميركي، خرجا معاً في ساعة متأخرة من الليل، وسارا إلى محطة "الميترو"، وكان "جبران يتأبط ذراع صديقه، وفوقهما تشمخ ناطحات السحاب، فشعرا بالقوة المادية الساحقة تحيط بهما.. وبينما هما يتجهان إلى باب النفق المؤدي إلى محطة الميترو، توقف جبران فجأة وقبض على يد فليكس بكلتا يديه، وصوب نظره إليه، وقال بصوته الصافي العميق:

"إنك متألم يا أخي، فيك قرحة في الروح، وقرحة في الأحشاء، أما روحك فلن يشفيها سوى بلوغها مدى الألم، وأنت تدفعها إلى ما قدر لها بجلدك وجهادك وصبرك، أما جسدك وفي أحشائه قرحة، فليس من حقك أن ترهقه بالمكابرة، دعني أذهب بك إلى أكبر جراح في الولايات المتحدة، إن صندوق أخيك جبران لك، كما أن لك عطفه وكل حنانه. دعني أمثل لبنان، فأسعى إلى شفائك، وتكون يدي رابطة على يدك، فلا تشعر بأوجاع جراحك".

فتهدج صوت فليكس فارس في صدره واختنق، وعانق جبران عناقاً حميماً، سالت على أثره قطرات الدموع فبللت خدي كل منهما. (من مفكرة فليكس فارس تاريخ 21 آذار (مارس) 1922).

أقام فليكس فارس في الولايات المتحدة الأميركية سبعة أشهر، لم يكن يفارق جبران فيها إلا نادراً. تعانقا كما لو كانا أخوين يعرفان بعضهما منذ عهد بعيد، وتحادثا طويلاً، وامتزجت روح كل منهما بروح الآخر. التقيا على المنابر، وفي قاعة جبران الواسعة التي كان يمتلكها في بناية رجال الفن، وفي كل لقاء كان كل منهما يسبر أعماق فكر الآخر وأعماق شعوره، دون أن يخطر لأي منهما أن يتفهم شيئاً عن حياة رفيقه، ومركزه، وعلاقاته... كان فليكس يحث جبران دائماً على العودة إلى لبنان، لينتزعه من الولايات المتحدة، فترتاح أعصابه، وتهدأ روحه المتوثبة، ويشفى من علة الصدر التي كان ينذره شبحها، ولكن دون جدوى، بالرغم من الشوق المجنون الذي كان يستعر في قلبه، ويتأجج في حنايا ضلوعه. يقول فليكس فارس:

"لقد حاولت عبثاً، وحاول الكثيرون من أصحاب جبران انتزاعه من الولايات المتحدة، واستقدامه إلى لبنان، ومن يدري ما كان سيؤثر هذا الانتقال على جبران، لو أنه رضي به؟. أكانت سكينة جبالنا وهواؤها البليل، وماؤها السلسبيل قادرة على انتزاع العبقري من هيامه بأصول الأشياء، فترده عن المضي بنفسه إلى قمة نفسه؟".

"ماكان جبران عليلاً بجسده، وقد خفيت على الأطباء علة خفقان قلبه، لأن ذلك القلب كان قد أصبح هو نفسه تلك الكلمة المجنحة التي أرادها جبران أن يهجئها حروفاً".

بعد وفاة جبران بأيام كتب فليكس فارس إلى مي زيادة ـ صديقة جبران وحبيبته ـ يقول: "... هنالك عرفت جبران الذي عرفته أنت كثيراً يا مي، ومفكراتي التي دونت فيها ما شاهدت من حوادث، وما جال بي من خواطر، فيها الشيء الكثير عن جبران...". ولكن أين صبحت كل هاتيك المفكرات المدونة، والرسائل المتبادلة، والخواطر المسجلة على الورق، بعد وفاة فليكس فارس، علماً بأنه لم ينشر منها إلا جانباً يسيراً في كتابه الشهير "رسالة المنبر"؟. ألم يهتد إليها أحد ممن نقبوا وفتشوا عن كل ماله صلة بجبران ليعدوا الأطروحات الجامعية، أو يؤلفوا الكتب؟ ومن الغريب أن الدكتور جميل جبر، الذي جمع رسائل جبران، وطبعها في "دار بيروت" عام 1951 قد أهمل أو أسقط رسائل كثيرة لجبران، كما بتر مقاطع كبيرة مما نشره منها، وأخطأ في نقل بعضها الآخر، وكانت الأمانة التاريخية تقتضي منه ألا يحذف أو يعدل شيئاً مما  عثر عليه، وأن يشير إلى الطريقة أو الطريق التي استخدمها للوصول إلى هذه الرسائل! ومثل ذلك فعل في رسائل مي زيادة...

وعلى سبيل المثال أثبت الرسالة التي بعث بها فليكس فارس لجبران في الثاني والعشرين  من نيسان (إبريل) سنة 1922، (وليس سنة 1930 كما يذكر الدكتور جبر) ورد جبران عليها كما وردتا في كتاب رسالة المنبر إلى الشرق العربي لفليكس فارس نفسه صفحة (116 ـ 118) وفي كتاب رسائل جبران لجميل جبر صفحة (101 ـ 103) وسأضع المقاطع المبتورة بين أقواس كبيرة، ليطلع القارئ على مدى أمانة  الدكتور جبر  التاريخية سامحه الله!، علماً بأن الكتابين نشرا في ذلك الحين في جريدة السائح النيويوركية لعبد المسيح حداد.

أخي جبران: (انتظرت ليصفو صوتي من غصة الدموع، فما جفت مناهلها، أردت أن أكتب إليك مغرداً لا نائحاً، فرأيت القلم يعصيني قاطعته).

(كدت أسلم نفسي لمبضع الجراح، لو لم أجد علاجاً أوقف به آلامي التي حملتها ستين يوماً، فما أبقت لي غير عظام تسيرها الإرادة على الأرض فتمشي).

جبران، إن رؤيتي  إياك عليلاً كانت أشد علي من علتي، تعال لنذهب إلى وطن  الجسد نحييه هناك، إن للجسم نزعات إلى ترابه، كما أن للروح نزعات إلى جوهرها، عندما تثور عاصفة الآلام.

تعال، يا أخي (إن لكلينا في المصدر وفي المظهر جنحاً سليماً وجنحاً مكسوراً) فلنرم المكسورين، ولنطر بالسليمين إلى مستقر السكون.

إن في روحي إليك شوقاً يشبه الشوق إلى المقر الذي تركت قلبي فيه، هنالك على مرفأ بيروت، تتطلع عيوني  إلى جنان أرزي وجنات بلادي، وقربك يا جبران تتطلع روحي إلى أرزها الخالد كأنها على شاطئ الكون الحق.

تعال لنظفر بالوطنين، ونداوي العلتين، إن هذه المدينة التي نالت منك تبريحاً بعد سنين، قد ناءت علي بشهور، فتعال نستثمر آلامنا منها تحت ظلال الأرز والصنوبر، إذ نكون (هنالك) أقرب إلى الأرض وألصق بالسماء ـ جعلها جبر ألصق بالأرض وأقرب إلى السماء ـ.

(أتيت إخواني المهاجرين شاعراً، فأراد بعض المتسيسين أن يمسخوني نفعياً، وما كانت استفادتي من هذه الرحلة غير غصة في الروح وقرحة في الحشاشة، ولكنني أتعزى بقطرات دموع أسالتها كلماتي على المنبر من جفون المهاجرين أخوتي، تلك القطرات هي كل غنيمتي: لقد أيقظت شوقاً كاد يموت في رقدته، ونبهت ألماً كاد في هجعته يجعل الداء مزمناً عقاماً، ومامن داء أقتل للأفراد والأمم من علة لا تؤلم ضحيتها).

(كل ما أطلب من القوة المسيرة العليا، هو أن تقدر الوصول لي معك إلى بلادنا فأستند إلى ذراعك، وتستند إلى ذراعي، فنتمشى على مهل بين وديانها وجبالها، وعلى ضفاف أنهارها ونسمع زقزقة عصافيرها، فنفهم ما تسر الأنهار، وما تقول الأطيار، وما تعلن الأنجاد والأغوار).

لقد اشتاقت عيناي إلى مرأة تراب الأرض، ومافيه من تجليات العالم الخفي. صدّق يا جبران، إنني ما رأيت زهرة ناضرة، ولا نشقت عرفاً زكياً، ولا سمعت تغريد شحرور، ولا مر بين نسيم بليل، منذ توارت آخر أشعة رمقتها عيناي على آخر مشهد من أرض الشرق، بلادك وبلادي.

(دع هذه البلاد الغنية العظيمة، وتعال معي إلى بلادنا الصغيرة الفقيرة، حيث لا تتكسر الزنابق، ولا تذبل الأزهار).

(تعال، لقد عرف العالم الجديد فيك ما يتاح للعالم القديم أن يخلق من قوة في ضعفه، وقد حان الزمن الذي يجب فيه أن تعمل هنالك مع إخوانك، قرب مقابر الأجداد، على إحياء المبادئ السامية التي تمخض الشرق بها قديماً، وهي تنتفض اليوم، لتسود مدنية العالمين في آتي الزمان).

تعال، لننبه الآلام ـ وردت الأوجاع ـ الساكنة، تعال لنسمع سماؤك الصافية كل مافي أناشيدك ـ وردت نشيدك ـ من الصفاء، ولترسم ريشتك عن الأصل ما ترسمه الآن عن انطباعات الخيال في قلبك.

سلام إليك من أخيك

فليكس فارس

وهذا مقطع من رد جبران على رسالة فليكس فارس التي تقدمت:

أخي فليكس:

... لا ليس من الغرائب أن يريشنا جبار من جبابرة المظهر بسهم واحد، في آن واحد، فيصيب منك جناحاً، ويصيب مني جناحاً. لا بأس، يا أخي، فالألم يد تكسر قشرة النواة لتستنبت لبابها.

لم أزل رهن الأطباء  الأخصائيين، وسأبقى رهن مقاييسهم وموازينهم حتى يتمرد جسدي عليهم أو تتمرد روحي على جسدي، وقد يجيء التمرد بشكل الامتثال، والامتثال بشكل التمرد، ولكن تمردت أو لم أتمرد، فلابد من الرجوع إلى لبنان، لابد من التملص من هذه المدينة السائرة على دواليب، ومعانقة تلك المدينة المستسلمة لنور الشمس ـ وردت عند جبران المتسلسلة بنور الشمس ـ على أنني أرى من الحكمة ألا اترك هذه البلاد حتى أقطع الخيوط والسلاسل التي تربطني بها، وما أكثر تلك السلاسل والخيوط (وأنت لا تريد أن أذهب إلى لبنان، وأتكئ  في ظلاله عاماً أو عامين، ثم أراني مضطراً للرجوع إلى الولايات المتحدة  لقضاء مهمة فنية، أو للنظر في مسألة كتبية).

إنني أريد أن أذهب إلى لبنان وأبقى ذاهباً...

(لقد تركت عندنا ذكراً عاطراً...)

(أما غطيط بعض المتسيسين، فلا يضر ولا ينفع، بل يستدعي الشفقة، وأنت من المشفقين... والله يحفظك أخاً عزيزاً لأخيك).

جبران.

لقد لفت نظر الصديقة السيدة سلمى الحفار الكزبري ـ التي استطاعت أن تجمع وتحقق خمساً وثلاثين رسالة كتبها جبران لمي زيادة ـ إلى أهمية الرسائل المتبادلة بين جبران وفليكس فارس، وأطلعتها على الغيض الذي ورد منها في كتاب "رسالة المنبر إلى الشرق العربي"، ولم تكن قد اطلعت عليها من قبل، فسرت بذلك جداً، ووعدت أن تواصل البحث للعثور على رسائل أخرى  سوف تنشرها يوماً ما، كما نشرت رسائل جبران لمي، التي صدرت عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي في سورية، وكانت من قبل قد نشرتها بالإسبانية والإنكليزية، فقامت هي بترجمتها إلى الإسبانية،  كما قام الدكتور سهيل بديع بشروئي أستاذ الأدب الإنكليزي في الجامعة الأميركية في بيروت، بترجمتها إلى اللغة الإنكليزية.

إننا ننتظر أن تصدر جميع رسائل جبران ومي محققة تحقيقاً علمياً جيداً، وقد وعدت السيدة سلمى أن تواصل السعي للحصول على رسائل جبران لماري خوري، وكان المرحوم المطران أنطونيوس بشير، مترجم كتب جبران إلى العربية، قد حدثني عنها في مقابلة نشرت في العدد 30 سنة 1964 من مجلة المعرفة السورية.

 جبرانيات: بَين جُبران وَفليكس فارس "رسَائل وَذكريات وانطباعات"
بداية
الصفحة