اليوم 08-07-2017 , قبل 5 سنوات كتبت هذا النص في حق غسان كنفاني رحمه الله
لِ"غسان" أو"عنهُ"
08-07-2012
ولأنَّها الذِكرى الأربعِينية لرحِيلكَ كَان لا بُد من الانسِكاب قليلاً (أو كثِيراً , أنا لا أتحكمُ فِيَّ حِين أكتُب للعُظماء)..!
غسانُ يا وجعَ الكلِمة, أيُها "الرَجُل الذِي لا يُمكن قتلهُ" ,
أيُها الخالد خُلودَ الأبجدِية,
خُلودَ الشُهداءِ والوطنِ المُضرجِ بدمائهم الطاهِرة,
خُلودَ الزيتُونِ الشَامِخ فِي مُواجهةِ أمواجِ التصحُر البشرِية والطبِيعية ..!
حِين أقرأكَ أشعرُ بغُيومكَ تُمطِرُنِي صدقاً,حُزناً ورِقةً والكثِير من المشاعِر الأخرَى
التِي لا أُلفِي لهَا اسماً سِوى أنّه يُمكنني أن أقُول أن حرفكَ متخمٌ برائحة الحياةِ المُختلفة , وإن لم تعِش طويلاً
فإنكَ ستعِيش طويلاً فِي ذَاكِرتِي وذَاكرة كُل من قرأكَ وعرفكَ وأحبّك ..!
يا لنقائكَ المُذهِل حقاً , ويَا لهَذا الزخمِ المُهوِل مِن الأشياءِ التِي كنتَ تحملُها بين ثَناياَ صدرِك مُخفياً إياها ما استطعتَ عن الجمِيع,كاشفاً إياها - وأنت تقصِد أو لا تقصِد- حين تكتُب,
يا لعظمتكَ وأنتَ تنفجرُ كالبُركانِ فِي أوجُه طُغيانهم العَاهِر,تركضُ عَلى الخرِيطة مُشاكساً وساخراً منهُم,
تُهرِقُ شيئاً من دمِك بين الأحرُفِ عارضاً حياتكَ فِي مزادٍ علنِي, من يبِيعُني لأشترِي الخُلودَ ؟ منْ يقتُلنِي لأحيَى ؟ مَنْ ..!
وجَاءكَ الجوابُ صبِيحةَ يومٍ حُزيرانِي :"مع تحيات سفارة إسرائيل _كوبنهاجن"
لتبتسمَ كعادتكِ فأنتَ تركتَ لهُم بين كُل حرفٍ وحرفٍ ألفَ قُنبلةٍ ذرِية , فأينَ ستظهرُ قُنبلتهم البلاستِيكية المحشُوةِ بخمسِ كِيلوغراماتِ من الدينامِيت والتِي أودتْ بحياتِك ؟
غسانُ يا غسانُ ..
من قَال أنَّ الموتَ هُو النِهايةُ الحتمِية لكُل الأشياءِ ؟
إنه بدايةٌ لأشياءَ أخرَى , أشياءَ تتملصُ مِن رداءِ المَادةِ وتتحررُ مِن أغطِيتها لتُعانِق كُل ما يرفعُ الذَات فوقَ وفوقَ فقطْ..
لا أخفِيك غسان, إنِي أحببتكَ -ولا أدرِي لِما أرَى حُبكَ مُختلفاً عن حُبِي لباقِي من قرأتُهم-
أحببتُك كِتاباً مفتُوحاً أسطُرهُ تنفُضُ عنِي غُباراً غشَانِي منذُ الأبدِية ..
أحببتُك وطناً مفجُوعاً بهولِ المآسِي التِي حجتهُ مِن كُل حدبٍ وصوبٍ,
وطناً رغمَ كُل ما اعتَراهُ ظَل صامِداً حتَى النِهايةِ ,
وطناً أعَاد تعرِيفَ "الوطن" و"القضِية" ..!
إنِي أحببتكَ رجلاً وكاتباً وإنساناً ,
أحببتكَ بكُل كِياناتكَ التِي تُطِل عليَّ خجلَى تارةً وتثُورُ فِي وجهِي تارةً أخرَى ,
ووضعتكَ على جنبٍ مع أشيائِي التِي تخُصنِي وتُحدِدُنِي شخصِيةً وشخصاً ..!
مُقتطفاتٌ مِن ما قرأتُه لكَ :
( إنني أتحدث عن وجود أكثر تعقيداً من ذلك وأكثر عمقاً . ماذا أقول لك وكيف أشرح لك الأمور؟ دعيني أقول لك كيف: أمس كنت أذوّب شمعة فوق زجاجة، أتلهى بهذه اللعبة التي يكوّن فيها الإنسان شيئاً فوضوياً وغامضاً من زجاجة وقضيب شمع، وكان ذوب الشمع قد كسى جسد الزجاجة بأكمله تقريباً ، وفجأة سقطت نقطة من الشمع الذائب دون إرادة مني وتدحرجت بجنون فوق تلال الشمع المتجمد على سطح الزجاجة واستقرت في ثغرة لم أكن قد لاحظتها من قبل وتجمدت هناك فجعلت ثوب الشمع بأكمله يتماسك من تلقائه. ) فِي رسالةٍ لأخته فائزة
تعقِيب
نُقطةٌ واحِدة مِن ذَاك الشمعِ الذَائِب كَانت سببَ تماسُكه ,
يا للغرابةِ ..!
التفاصِيل الصغِيرة -تلك التِي نُهملها دوماً- هِي الأساسُ ,
تِلكَ التِي نكادُ نُقسِم أنَّها لا تهُمُّ , لتُفاجِئنا بأنّها "الأهمّ" , وأنّها "القضِية" ..!
و-للسُخرِية المُضحكة- كُلما كبُر التفصِيل كُلما فقدَ قُدرته على التأثِير عَلى ذاتِه وعلى غيرِه ..!
( في كل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال ، منذ أن استلقى هناك أول مرة، يشق طريقاً قاسياً إلى النور قادماً من أعمق أعماق الجحيم، حين قال ذلك مرة لجاره الذي كان يشاطره الحقل، هناك، في الأرض التي تركها منذ عشر سنوات، أجابه ساخراً:
"هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض "، أي هراء خبيث ! ) في روايته رجالٌ تحتَ الشمسِ
تعقِيب
إنَّها الأرضُ , إنَّها "الوطن" الحقِيقِي يا غسَّان ,
إنّها الأصل يا غسَّان ..
فكيفَ لا ينبِضُ القلبُ حِين يلتصقُ صدرُك بالأرضِ , أ تظُن القلبَ ناكراً أصلهُ ؟
أ تظُن أنّ الأوردةَ لا تُجِيب نداء مُنادِي الحنِين ؟
( لقد كان صمتي إعلانا راعدا عن " شيء آخر" في حياتنا عشنا دائما في معزل عنه فاذا به، فجاةً، أقوى ما في حياتنا...
من الذي قتل ليلى الحايك اذن ؟
أجيبك ببساطة : شيء آخر هو الذي قتل ليلى الحايك، شيء لم يعرفه القانون ولا يريد أن يعرفه.. شيء موجود فينا، فيك أنت، فيّ أنا، في زوجها، في كل شيء أحاط بنا جميعاً منذ مولدنا..
نعم أنا جزء من الجريمة، و أنت كذلك، و لكن الذي نفذ الجريمة هو وحش غامض ما زال و سيظل طليقا. ) في روايته "من قتل ليلَى الحايك ؟ أو الوجه الآخر"
تعقِيب
ما مِن أحدٍ يُقتلُ هكَذا فقطْ لأجلِ الصّدفة , وإن مَات -باختِياره-
نُساهمُ كُلنا فِي قتل بعضِنا بطريقةٍ أو بأخرَى ,
ولأنّ الوحشَ الغامض الذِي تحدثت عنهُ فوق يخشَى أن ينكشِف , يظلُ مختبئاً بين الستائر خشيةَ نُور الشمسِ , مُشيراً بأصابعه الملوثةِ دماً إلى أحدهم "بالتحدِيد",
وحشٍ آخر قُدر له أن يحمِل المسؤُولية لوحدِه, أن يُعاقبَ على جريمةٍ لم يكُن وحده من ارتكبَها ..!
( لقد حاولت منذ البدء أن أستبدل الوطن بالعمل ، ثم بالعائلة ، ثم بالكلمة، ثم بالعنف، ثم بالمرأة ، وكان دائما يعوزني الانتساب الحقيقي. ذلك أن الانتساب الذي يهتف بنا حين نصحو في الصباح: لك شيء في هذا العالم فقم.أعرفته؟ وكان الاحتيال يتهاوى ، فقد كنت أريد أرضا ثابتة أقف فوقها ، ونحن نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أقدامنا ، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليد هشة معلقة بالهواء. ) فِي رسالةٍ لغادة السّمان
تعقِيب
لا يُستبدلُ الوطنُ يَا غسَّان, لعلَّك أدركتَ ذلِك مُتأخراً, حتى حُب امرأةٍ كغادةَ أيُها العزِيز مَاكان ليمنحكَ انتساباً حقيقياً ,
بحثتَ حِين كنت حياً عن وطنٍ يحتوِيك, وعن انتسابٍ يختزلكَ , وما حصلتَ على ذلِك إلا حِين مُتَّ , صَار لك وطنٌ أخيراً بل أوطانٌ عِدة ,
صِرت يا غسانُ وجهاً من أوجهِ القضِية التِي لا تمُوت وتحولتَ ل"الأرض الثابتة" التِي نقف فوقها جميعاً حِين ينطقُ صوتُنا ب"لا" فِي مواجهة مُغتصبِينا ..!
(
حرية التكوين أنت ,, وخالق الطرقات أنت ,,
وأنت عكس المرحلة ,
اذهب فقيراً كالصلاة ,,
وحافياً كالنهر في درب الحصى
ومؤجلاً كقرنفلة ,,
لا لست آدم كي أقول خرجت من بيروت أو عمان أويافا,
وأنت المسألة ,
,فاذهب إليك فأنت أوسع من بلاد الناس
أوسع من فضاء المقصلة ,, )
تعقِيب
وما أفْقَرنا حِين تتوضأ الجُفون بعبراتِ الوطنِ,
نُلملم شتاتنا قاصدِين رباً "رحِيما" بنا,
رباً يسمعُ أنِين الوجعِ فِي وجدانِي ووجدانكَ يا غسَّان ..!
نبِيتُ وأحْلامُنا ليست مُؤجلةً ,
لا وربِ الكعبةِ ,
فقدْ أُعدِمت ليلاً بالمقْصَلة ,
أُعدِمت حِين ظنَّنا أنَّنا -لا شكُ- قد نُصبحُ على وطنٍ بالانتِظار ..!
كنتُ أودُ لو كنتُ على قيدِ الحَياةِ حِين احتِضاركَ, كنتُ لأقُول لكَ حِينها : مُت مُرتاحاً ونمْ قرِير العينِ أيُها الرجُل الذِي لا يُمكن قتلُه إلا مِن الداخِل,
مُت بهدوءٍ -جسداً- فرُوحكَ ستظلُ فِينا لأبدِ الآبدِين , وسيظلُ ذِكرُكَ إنعاشاً لأبجدية كُل عاشقٍ "مغدورٍ" مِن الوطنِ,مِن الحبِيب,مِن الأهلِ,مِن المُجتمعِ, ومِن نفسه ..!
غسانُ,اغْفِر لِي..
لوهلةٍ ظننتُنِي كتبتُ شيئاً يستحِقُ أن يُرسلَ إليكَ,
ولكِن بعد أن قرأتُ ما كتبتُ فضلتُ أن أستبدِل "إلَى" ب "عنْ" كي لا أسقُط فِي شركِ رسالةٍ لستُ بقادرةٍ عَلى كِتابتها كما يجب .
قَال تشِي غِيفَارا يوماً
"أطلق النار أيها الجبان... إنك تقتل إنساناً"
وأقُول
"أطلق النار أيها الجبان... إنك تقتُل غساناً وتخلدُ غساناً"
هَاجر
لرجُلٍ مَات صباح الثامن من حزيران 1972