المبحث الثاني: حجم النفقات العامة
إن دراسة حجم النفقات لعامة تلقي اهتماما بالغا من طرف علماء المالية العامة سواء ناحية تبيان: أولا: الضوابط التي تحكم سلوك الدولة أو الهيئات العامة وهي بصدد إجراء نفقاتها العامة، وثانيا: حدود النفقات العامة والعوامل المؤثرة على حجمها بالزيادة أو النقصان، وثالثا دراسة الأسباب المفسرة لظاهرة تزايد النفقات العامة، وسندرس هذه الموضوعات في ثلاث مطالب مترابطة.
المطلب الأول: ضوابط الإنفاق العام
إن سلامة مالية الدولة تقتضي التزام مختلف الوحدات المكونة للاقتصاد العام عند قيامها بالإنفاق العام باحترام بعض المبادئ أو الضوابط، وحتى يحقق هذا الإنفاق آثاره المنشودة من إشباع الحاجات العامة، يجب أن تستهدف النفقات العامة تحقيق أكبر قدر من المنفعة القصوى للمجتمع من ناحية، وأن يتم هذا عن طريق الاقتصاد في النفقات العامة من ناحية أخرى، ويتم التحقق من توافر الضابطين السابقين بواسطة أساليب الرقابة المختلفة.
1/-ضابط المنفعة (أي تحقيق أكبر قدر من المنفعة للمجتمع):
إن تحقيق أكبر قدر من المنفعة يعني بالدرجة الأولى ألا توجه النفقة العامة لتحقيق المصالح الخاصة لبعض الأفراد أو لبعض فئات المجتمع دون البعض الآخر نظرا لما يتمتعون به من نفوذ سياسي أو اجتماعي، ويمارس هذا النفوذ عادة في هيئة ما يسمى بجماعات الضغط وما تحدثه هذه الجماعات من آثار ضارة بسبب الأساليب والضغوط المختلفة التي تمارسها في المجتمع.
كما يعني أيضا أن ينظر إلى المرافق والمشروعات العامة نظرة إجمالية شاملة لتقدير احتياجات كل مرفق وكل وجه من أوجه الإنفاق في ضوء احتياجات المرافق والمشروعات وأوجه الإنفاق الأخرى.
ويستوجب تحقيق أكبر قدر من المنفعة أن توزع مبالغ النفقات العامة بحيث تكون المنفعة المترتبة على النفقة الحدية في كل وجه من وجوه الإنفاق مساوية للمنفعة المترتبة على النفقة الحدية في كل الوجوه الأخرى من جهة، وأن تكون المنفعة المترتبة على النفقة الحدية في كافة وجوه الإنفاق مجتمعة مساوية للمنفعة المترتبة على النفقة الحدية للدخل المتبقي في يد الأفراد بعد دفع التكاليف العامة كالضرائب من جهة أخرى، وهذا تطبيق لقاعدة توازن المستهلك.
وفي حقيقة الأمر أنه من الصعوبة بمكان إخضاع المنفعة التي تعود على المجتمع من الإنفاق العام لمقياس واضح منضبط، حيث أن للنفقات العامة آثار متعددة: ظاهرة وغير ظاهرة، اقتصادية وغير اقتصادية، مباشرة وغير مباشرة، حاضرة ومستقبلية، مما يتعذر معه قياس هذه المنفعة أو تقديرها على وجه الدقة فالنفقات الحربية ونفقات التعليم والجزء الأكبر من النفقات التحويلية، إذا لا يمكن قياس المنفعة التي تترتب عليها بالتدقيق كما هو ظاهر.
وفي الواقع أن تقرير ما إذا كان وجه معين من وجوه الإنفاق يترتب عليه تحقيق نفع عام أم لا إنما يعود للسلطة السياسية في الدولة، وبهذا يعتبر القرار المتضمن للإنفاق العام في وجه معين دون غيره بمثابة تفضيل للنفع المتحقق منه دون النفع الذي يتحقق من غيره، وهذا تفصيل سياسي بطبيعة الحال.
ولا شك أنم معرفة مبلغ الإنفاق العام الذي ينفق على وجه معين له فائدته، حتى لو استحال قياس المنفعة التي تعود على المجتمع منه، وتتمثل هذه الفائدة في إفساح المجال أمام الرأي العام والسلطة التشريعية لمراقبة الحكومة وهي بصدد توزيع مبالغ النفقات العامة بين وجوه الإنفاق المختلفة.
2/-ضابط الاقتصاد في الإنفاق (ضغط النفقات العامة):
يعتبر الاقتصاد في الإنفاق شرطا ضروريا لأعمال ضابط المنفعة السابق ذكره، فمن البديهي أن المنفعة الجماعية القصوى الناجمة على النفقة لا تتصور إلا إذا كان تحققها ناتجا من استخدام أقل نفقة ممكنة، وعليه يتعين على سائر الهيئات والمشروعات العامة في الدولة مراعاة الاقتصاد في إنفاقها، والاقتصاد في الإنفاق لا يقصد به الحد من الإنفاق والتقليل منه إذا كانت هناك أسباب ضرورية تبرره، ولكن يقصد به حسن التدبير ومحاربة الإسراف والتبذير والعمل على تحقيق أكبر عائد بأقل تكلفة ممكنة، وفي الواقع أن التبذير أو الإسراف وهو ما يطلق عليه "التسبيب المالي" يؤدي إلى ضياع مبالغ مالية في وجوه غير مجدية كان من الممكن توجيهها إلى غيرها من الوجوه المفيدة، أو تركها في يد الأفراد لاستغلالها في مجالات أكثر فائدة.
ومن جهة أخرى فإن التبذير يضعف الثقة في الإدارة المالية للدولة ويبرر التهرب من دفع الضرائب في نظر المكلفين بدفعها، ومظاهر التبذير الحكومي متعددة ويمكن أن تحدث في شتى مجالات الإنفاق العام، وعلى الأخص في الدول النامية ومن أمثلتها مايلي:
-استخدام عدد كبير من الموظفين أو العمال في الوزارات والمصالح الحكومية يزيد عن الحد اللازم تماما لحسن سير تلك المرافق.
-الاهتمام بتشييد المباني الضخمة والتأثيث الفاخر لدور الحكومة والمرافق العامة.
-استئجار المباني والسيارات بدلا من شرائها.
-إسراف وتبذير في الاستهلاك العام مثل: مصروفات الإضاءة والمياه والتليفونات التي تدفعها الدولة دون استخدامها أو لزومها بالفعل لأداء النشاط العام وتحقيق النفع العام.
-كميات الأوراق والملفات المكلفة للدولة نفقات باهظة دون استخدامها كلها في الأعمال العامة.
-استغلال الوظيفة العامة في أخذ ماهو حق الجماعة بأسرها للانتفاع به نفعا خاصا بدون وجه حق.
ولهذا فإن الحاجة تدعو إلى ضبط النفقات العامة للدولة في مختلف قطاعات الاقتصاد القومي على أساس مراعاة الحاجات الحقيقية الفعلية، بحيث لا تتحمل الدولة نفقات عامة إلا إذا كانت أساسية وضرورية تماما، بالقدر اللازم فقط لتحقيق المنافع الجماعية العامة.
3/-تقنين النشاط المالي والإنفاق للدولة وأحكام الرقابة على النفقات العامة:
ففيما يتعلق بتقنين القواعد الإجرائية للإنفاق العام، فإن القوانين المالية في الدولة تنظم كل ما يتعلق بصرف النفقات العامة أو إجراءها فتحدد السلطة التي تأذن بالإنفاق وتوضح خطوات الصرف والإجراءات اللازمة بالنسبة لكل منها حتى تؤدي النفقة العامة في موضعها وينجم عنها فعلا النفع العام الذي تستهدفه، وعليه فإن تقنين النشاط المالي والإنفاقي للدولة يقتضي أن تكون نفقاتها العامة مستوفية لإجراءات تحقيقها وصياغتها وتنفيذها على النحو المبين في الميزانية والقوانين واللوائح والقرارات المالية الأخرى.
أما الرقابة على الإنفاق العام فهي تأخذ أشكالا ثلاثة:
1-رقابة إدارية:
وهي رقابة تقوم بها في العادة وزارة المالية (أو الخزانة) عن طريق موظفيها العاملين في مختلف الوزارات والهيئات العامة ومهمتهم الأساسية هي عدم السماح بصرف أي مبلغ إلا إذا كان في وجه وارد في الميزانية وفي حدود الاعتماد المقرر له، وهذه رقابة سابقة على الإنفاق.
2-رقابة محاسبية مستقلة:
ومهمتها التأكد من أن جميع عمليات الإنفاق قد تمت على الوجه القانوني وفي حدود قانون الميزانية والقواعد المالية السارية، وهذا النوع من الرقابة قد تكون سابقة للصرف أو لاحقة عليه.
3-رقابة برلمانية:
وتتولاها السلطة التشريعية بمالها من حق السؤال والاستجواب والتحقيق البرلماني وسحب الثقة من الوزير أو من الوزارة كلها، وتظهر هذه الرقابة بصورة واضحة عند اعتماد الميزانية، وعند اعتماد الحساب الختامي أمام البرلمان.
المطلب الثاني: حدود النفقات العامة
فالنفقات العامة عبارة عن مبالغ نقدية تقتطعها الدولة من الدخل القومي لتقوم هي بإنفاقها قصد إشباع الحاجات العامة، والسؤال المطروح هنا يدور حول ما إذا كانت هناك نسبة معينة من الدخل القومي لا يحق للدولة تجاوزها وهي بصدد تحديد النفقات العامة أو بمعنى آخر: هل للنفقات العامة حدود لا يصح للدولة تعديها أو حجما لا يجوز أن تزيد عليه، وقد حدد بعض الاقتصاديين والماليين التقليديين نسبا معينة من الدخل القومي تتراوح ما بين 10% و 15% وأنه لا يصح للدولة تجاوز هذه النسب، إلا أن ما يؤخذ على هذا المنطق جمود النسبة التي يحددها وتجاهله للظروف الاقتصادية والمالية التي تميز الاقتصاد القومي عن غيره من الاقتصاديات القومية والتي تختلف من فترة لأخرى في نفس الدولة.
وفي الواقع أن تحديد حجم الإنفاق العام أو حدوده في مكان وزمان معينين إنما يتوقف على مجموعة من العوامل أهمها: العوامل المذهبية والاقتصادية والمالية.
1-العوامل المذهبية:
إن تحديد ما يعتبر حاجة عامة، وقيام الدولة بإشباعها عن طريق الإنفاق العام، يخضع للفلسفة المذهبية أو الإيديولوجية السائدة في الدولة: فردية أو تدخلية أو جماعية.
أ-ففي ظل الإيديولوجية الفردية: فالفلسفة السائدة هي ترك الأفراد أحرار في إقامة وتنظيم علاقات الإنتاج والتوزيع فيما بينهم وهي الوسيلة المثلى لتحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي حيث يقتصر دور الدولة على القيام بمهام الدولة الحارسة أي الوظائف التقليدية بالإضافة إلى القيام ببعض الأنشطة الاقتصادية التي لا يقدم عليها النشاط الخاص، إما لضخامة نفقاتها كالسدود والخزانات، أو لعدم ربحيتها كالطرق والخدمات التعليمية …الخ، ويتحدد حجم النفقات العامة بالنسبة إلى الدخل القومي في ظل هذه الأيديولوجية بالقدر الضروري للقيام بتلك الوظائف مما يترتب عليه أن يقل حجم النفقات العامة ونسبتها إلى الدخل القومي من جهة، وأن تقل أنواعها من جهة أخرى.
ب-أما في ظل الأيديولوجية التدخلية: فالفلسفة السائدة هي ضرورة تدخل الدولة في بعض ميادين النشاط الاقتصادي والاجتماعي تاركة الأفراد أحرارا في ممارسة البعض الآخر، فإن دور النفقات العامة يزداد أهمية عن ذي قبل، فبالإضافة إلى وظائف الدولة التقليدية فهي تقوم بوظائف اقتصادية تتمثل في استغلالها لبعض المشروعات الإنتاجية، ومحاربة الآثار الضارة للدورات الاقتصادية، والعمل على ثبات قيمة النقود وتنمية الاقتصاد القومي وتقديم الخدمات المجانية أو ذات الأثمان الزهيدة للطبقات ذات الدخول المحدودة وغيرها من الإجراءات الهادفة إلى تقليص الفوارق بين الطبقات.
ج-وفي ظل الأيديولوجية الجماعية أو الدولة المنتجة حيث تمتلك الجماعة كل أو معظم أدوات الإنتاج، وتقوم الدولة نيابة عنها القيام بكافة وجوه النشاط الإنتاجي إلى جانب قيامها بالوظائف التقليدية، فإن دور النفقات العامة تزداد أهمية إلى أقصى حد، فالاقتصاد هنا ليس حرا وإنما تسيطر عليه الدولة وهي التي تقوم بعمليات الإنتاج والتوزيع كلها أو معظمها، وتعتبر كافة النفقات الاقتصادية على اختلاف أنواعها والخاصة بالوحدات الإنتاجية نفقات عامة، زيادة على النفقات الاجتماعية التي تهدف الدولة من ورائها توفير بعض الحاجات الأساسية لكافة المواطنين بأسعار تقل كثيرا عن تكلفتها الحقيقية، ويؤدي هذا الوضع بطبيعة الحال إلى زيادة حجم النفقات العامة وارتفاع نسبتها إلى الدخل القومي إلى اكبر حد مع تعدد وتنوع هذه النفقات بحسب حاجات الأفراد وحاجات الدولة ذاتها.
بالإضافة إلى العوامل المذهبية السابقة والتي يبدو من خلالها مدى تأثر الإنفاق العام من خلال ما تؤديه الدولة من أدوار اقتصادية واجتماعية في ظل نظام اقتصادي وسياسي معين، فإن حجم النفقات العامة يتأثر أيضا بطبيعة البنيان الاقتصادي، أي تبعا لدرجة التقدم والتخلف، فعادة ما يزداد هذا الحجم في الدول المتقدمة مقارنة بالدول المتخلفة.
2-العوامل الاقتصادية:
يتأثر حجم النفقات العامة وحدودها بالظروف الاقتصادية التي يمر بها الاقتصاد القومي وخاصة في فترات الرخاء والكساد التي تتعاقب على الاقتصاديات الرأسمالية، وتحت تأثير الأفكار الكينزية تلجأ الدول إلى زيادة نفقاتها العامة في أوقات الكساد لإحداث زيادة في الطلب الكلي الفعلي والوصول بالاقتصاد القومي إلى مستوى التشغيل الكامل، ويحدث العكس في أوقات الرخاء لتفادي الارتفاع التضخمي وتدهور قيمة النقود نظرا لوصول الاقتصاد القومي إلى حالة التشغيل الكامل.
أما في الاقتصاديات النامية التي تتميز بعدم مرونة جهازها الإنتاجي أو بمعنى آخر عدم استجابة بعض عوامل الإنتاج للزيادة في الطلب وذلك بسبب عدم وجود الموارد لاقتصادية اللازمة، أو عدم كفايتها، ولوجود نقص عنصر العمل الفني ورؤوس الأموال مما يجعل عرضها غير مرن ويحيل بعض قطاعات الاقتصاد القومي الحيوية إلى أوضاع تمثل نقط اختناق تشبه عنق الزجاجة تحد من نمو الإنتاج، وعليه يتحتم ألا تزيد النفقات العامة عن حد معين، لأنه بعد هذا الحد سوف ترتفع الأسعار وتتدهور قيمة النقود.
3-العوامل المالية:
يتحدد حجم النفقات العامة في الدولة بناء على مدى قدرتها المالية في الحصول على الإيرادات التي تضمن تغطية هذه النفقات، وعادة ما تتمتع الدولة في تدبير موارد ماليتها العامة بمقدرة أوسع مما يتمتع بها الأفراد في تدبير ما يلزم لتمويل ماليتهم الخاصة، إذ لا يمكن في المدى الطويل تجاوز النفقات لحد معين بزيادة النفقات العامة عن الإيرادات العامة، أي أنه على الرغم من مرونة موارد الدولة وقابليتها للزيادة، فإن لهذه الزيادة حدودا، وهو ما يعرف بالمقدرة المالية القومية.
ويقصد بالمقدرة المالية القومية: قدرة الاقتصاد القومي (أي الدخل القومي) على تحمل الأعباء العامة بمختلف أشكالها وصورها من: الضرائب، والقروض، والإصدار النقدي الجديد دون الإضرار بمستوى معيشة الأفراد أو بالمقدرة الإنتاجية القومية.
وتتمثل الطاقة الضريبية أهم عناصر المقدرة المالية القومية، ويقصد بالطاقة الضريبية القومية أو ما يعرف بالمقدرة التكليفية القومية أي قدرة الدخل القومي على تحمل الأعباء الضريبية أو بمعنى آخر تمويل تيارات الإيرادات العامة عن طريق الضرائب.
المطلب الثالث: ظاهرة تزايد النفقات العامة
إن ظاهرة اتجاه النفقات العامة إلى الزيادة والتنوع عاما بعد عام أصبحت من الظواهر المعروفة بالنسبة لمالية الدولة وبمختلف الدول وذلك نتيجة تطور دور الدولة وازدياد درجة تدخلها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وقد خلص الاقتصاديون اعتمادا على استقراء الإحصاءات في مختلف الدول إلى أن جعلوا هذه الظاهرة قانونا عاما من قوانين التطور الاقتصادي والاجتماعي.
ويعتبر العالم الألماني قاجنر wagner أول من لفت الأنظار إلى قانون زيادة النفقات العامة، بعد أن درس حجم النفقات العامة للعديد من الدول الأوروبية في القرن التاسع عشر، ويفسر قاجنر تلك الزيادة بسنة التطور، فالدولة تنمو وتتطور وتزداد التزاماتها مع اتساع دائرة تدخلها لخدمة الأفراد ومن ثم فإن نفقاتها تزداد تبعا لذلك.
وبالرجوع إلى البيانات الإحصائية الخاصة بتطور الإنفاق العام في العديد من الدول بعد الحرب العالمية الثانية تظهر بوضوح اتجاه النفقات العامة إلى التزايد بإطراد بغض النظر عن درجة النمو الاقتصادي والفلسفة المذهبية السائدة فيها.
وتجدر الإشارة إلى أن حجم الدخل القومي هو الآخر قد زاد في مختلف الدول إلا أن نسبة الزيادة في الإنفاق العام تجاوزت بكثير نسبة الزيادة في الدخل القومي.
وقبل بحث أسباب التزايد الحقيقي أو الظاهري للنفقات العامة يجب الإشارة إلى أنه لا يترتب على زيادة النفقات العامة أن يثقل عبء التكاليف العامة كالضرائب على الأفراد بنفس معدل زيادة النفقات، وذلك حتى مع ازدياد أنواع الضرائب المختلفة ورفع أسعارها لمواجهة الزيادة في النفقات العامة بمعدل أكبر من زيادة الدخل القومي، ويرجع هذا إلى إحساس الفرد بعبء التكاليف العامة يخف بسبب ارتفاع الدخل من ناحية واتجاه الدول الديمقراطية إلى زيادة أعباء الضرائب بوسائل مختلفة على الطبقات ذات الدخل المرتفع والتي تنقص المنفعة الحدية لدخولها كثيرا عن المنفعة الحدية للطبقات الأخرى ذات الدخل المحدود من ناحية أخرى، ويؤدي هذا إلى عدم زيادة عبء التكاليف العامة حتى مع زيادة نسبة النفقات العامة إلى الدخل القومي.
ونتناول فيمايلي أسباب تزايد النفقات العامة والمتمثلة في:
أولا: أسباب التزايد الحقيقي للنفقات العامة:
يقصد بالزيادة الحقيقية للنفقات العامة زيادة المنفعة الحقيقية المترتبة على هذه النفقات وزيادة عبء التكاليف العامة بنسبة ما، كما تشير إلى ازدياد تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
إن الزيادة الحقيقية للنفقات العامة في شتى الدول في السنوات الماضية يشير إلى الزيادة المطردة في حجم النفقات والتي ترجع إلى أسباب متعددة تختلف باختلاف مستوى التطور في كل دولة من الدول وهي: أسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية وإدارية ومالية بالإضافة إلى أسباب حربية.
1-الأسباب الاقتصادية:
إن من أهم الأسباب الاقتصادية المفسرة لظاهرة التزايد في النفقات العامة زيادة الدخل القومي والتوسع في المشروعات العامة وعلاج التقلبات التي تطرأ على النشاط الاقتصادي (خاصة في حالة الكساد)، فزيادة الدخل القومي تسمح للدولة في العصر الحديث من الزيادة في مقدار ما تقتطعه منه في صورة تكاليف أو أعباء عامة من ضرائب ورسوم وغيرها، حتى ولو لم تزاد أنواع الضرائب المقررة أو يرتفع سعرها وعادة ما تحفز هذه الموارد المتاحة الدولة على زيادة إنفاقها على مختلف الوجوه.
كما يؤدي التوسع في إقامة المشروعات العامة الاقتصادية إلى زيادة النفقات العامة، وتسعى الدولة من قيامها بهذه المشروعات:
أ-الحصول على موارد لخزانة الدولة.
ب-التعجيل بالتنمية الاقتصادية.
ج-محاربة الاحتكار.
وبصفة عامة توجيه النشاط الاقتصادي وجهة معينة بحسب الأيديولوجية السائدة في الدولة.
ومن جهة أخرى فإن محاربة الكساد وأثاره الضارة يحتم على الدولة القيام بالمزيد من الإنفاق بهدف زيادة مستوى الطلب الكلي الفعلي إلى المستوى الذي يسمح بتحقيق التشغيل الكامل وذلك في حدود الطاقة الإنتاجية للاقتصاد القومي، وهذه السياسة وإن كانت تصلح في البلدان المتقدمة، فإنها تكون غير صالحة في حالة البلدان النامية.
وأخيرا فالتنافس الاقتصادي الدولي مهما كانت أسبابه فهو يؤدي إلى زيادة النفقات العامة، سواء في صورة إعانات اقتصادية للمشروعات الوطنية لتشجيعها على التصدير ومنافسة المشروعات الأجنبية في الأسواق الدولية، أو في صورة إعانات للإنتاج لتمكين المشروعات الوطنية من الصمود والوقوف في وجه المنافسة الأجنبية في الأسواق الوطنية.
2-الأسباب الاجتماعية:
فقد أدى ميل السكان في العصر الحديث إلى التركز في المدن والمراكز الصناعية إلى زيادة النفقات العامة المخصصة للخدمات التعليمية والصحية والثقافية والخاصة بالنقل والمواصلات والمياه والغاز والكهرباء …الخ، ويرجع ذلك إلى أن متطلبات وحاجات سكان المدن أكبر وأعقد من حاجات سكان الريف كما هو معلوم، كما أدى انتشار التعليم إلى تعزيز فكرة الوعي الاجتماعي فأصبح الأفراد يتطلبون من الدولة القيام بوظائف لم تعرفها في العصور السابقة، كتأمين الأفراد ضد البطالة والفقر والمرض والعجز والشيخوخة وغيرها من أسباب عدم القدرة على الكسب، وقد نتج عن منح الدولة لهذه الإعانات وتقديم للعديد من الخدمات الاجتماعية إلى زيادة النفقات العامة وبصفة خاصة النفقات التحويلية.
3-الأسباب السياسية:
إن انتشار المبادئ الديمقراطية ترتب عنها اهتمام الدولة بحالة الطبقات محدودة الدخل، والقيام بالكثير من الخدمات الضرورية لها، وكثيرا ما يدفع النظام الحزبي الحزب الحاكم إلى الإكثار من المشروعات الاجتماعية قصد إرضاء الناخبين وإلى الإفراط في تعيين الموظفين مكافأة لأنصاره وينجم عن هذا كله بطبيعة الحال تزايد في النفقات العامة.
كما يؤدي تقرير مبدأ مسؤولية الدولة أمام القضاء إلى زيادة الإنفاق الحكومي لمواجهة ما قد يحكم به على الدولة من تعويضات وغيرها.
ومن جهة أخرى إن اتساع نطاق التمثيل الدبلوماسي لكثرة عدد الدول المستقلة وزيادة أهميته في العصر الحديث، إلى جانب ظهور منظمات دولية متخصصة وغير متخصصة ومنظمات إقليمية متعددة قد أدى إلى زيادة الإنفاق العام على هذا المرفق الحيوي.
4-الأسباب الإدارية:
مما لا شك فيه أن سوء التنظيم الإداري وعدم مواكبته لتطور المجتمع الاقتصادي والاجتماعي والعلمي، والإسراف في عدد الموظفين وزيادتهم عن حاجة العمل والإسراف في ملحقات الوظائف العامة من سعاة وأثاث وسيارات …الخ يؤدي إلى زيادة الإنفاق الحكومي، وهذه الزيادة في النفقات العامة حقيقية لأنها تؤدي إلى زيادة عبء التكاليف العامة على المواطنين، وإن كانت تمثل زيادة غير منتجة إنتاجا مباشرا لأنه لا يترتب عليها زيادة في القيمة الحقيقية للنفع العام، وهي في حقيقتها أقرب ما تكون إلى النفقات التحويلية منها إلى النفقات الفعلية (الحقيقية).
5-الأسباب المالية:
إن سهولة الافتراض في الوقت الحاضر أدى بالدولة إلى كثرة الالتجاء إلى عقد قروض عامة للحصول على موارد للخزانة العامة مما يسمح للحكومة بزيادة الإنفاق وخاصة على الشؤون الحربية، وهذا فضلا عما يترتب على خدمة الدين من دفع لأقساطه وفوائده من الزيادة في النفقات العامة.
وفي حالة وجود فائض في الإيرادات أو مال احتياطي غير مخصص لهدف معين فإن ذلك يؤدي إلى إغراء الحكومة بإنفاقه في أوجه غير ضرورية، وبذلك تزداد النفقات العامة، وتبدو خطورة هذه السياسة في الأوقات التي تحتم فيها السياسة السليمة على الحكومة العمل على خفض نفقاتها، وذلك لما هو معروف من صعوبة خفض كثير من بنود الإنفاق العام.
الأسباب الحربية:
وهي لا تقل أهمية عن الأسباب السابقة الذكر، إن لم تكن أهمها جميعا في وقتنا الحاضر بالنظر إلى اتساع نطاق الحروب والاستعداد لها وما يترتب عن ذلك من تزايد الإنفاق العسكري في الدولة، ولا يقتصر الأمر في أوقات الحروب فقط، بل يزداد هذا الإنفاق حتى في فترات السلم، وهو ما تؤكده الظروف الراهنة الناجمة عن التوتر العالمي في كافة دول العالم، وتتفاوت الزيادة في النفقات العامة اللازمة للحرب بين مختلف الدول حسب ظروف كل دولة ومركزها السياسي والاقتصادي وسط جوانب الصراع الدولي، ويمكن التأكد من ظاهرة التزايد المستمر في النفقات الحربية إلى حجم الإنفاق العام، وذلك بالرجوع إلى تطور هذه النفقات في الميزانيات العامة لبعض الدول الكبرى، ومن الوقوف على نسب النفقات العامة إلى حجم الدخل القومي في نفس الدول.
وتتسم فترات الحروب عامة بالتبذير الحكومي وصعوبة تحقيق الرقابة على نفقات الدولة أثناء الحرب بسبب كل من: الطبيعة السرية للإنفاق العسكري وسرعة اتخاذ القرارات الانفاقية، وانتهاء الحرب لا يعني انتهاء النفقات الحربية، إذ أنها تنخفض فقط إلى حد معين نظرا إلى أن استمرار التوتر الدولي يحتم على الدول المختلفة الاحتفاظ بقوة ضارية في حالة استعداد مستمر لمواجهة أي تهديد لسلامتها وبالتالي الدخول فيما يسمى بسباق التسلح.
ومن جهة أخرى تزداد النفقات العامة على وجوه معينة بعد انتهاء الحرب كدفع تعويضات وإعانات ومعاشات لضحايا الحرب من قدماء المحاربين وأسر الشهداء بالإضافة إلى نفقات إعادة البناء وتعمير ما دمرته الحرب في الجهاز الإنتاجي للاقتصاد القومي إلى جانب دفع أقساط وفوائد الديون التي عقدتها الدولة أثناء الحرب لتمويل نفقاتها الحربية.
ثانيا: أسباب التزايد الظاهري للنفقات العامة:
ترجع الأسباب المؤدية إلى زيادة النفقات العامة بهذا المعنى إلى تدهور قيمة النقود وطريقة إعداد الميزانية والحسابات العامة وتغير مساحة إقليم الدولة وزيادة عدد سكانها في بعض الأحيان.
1-تدهور قيمة النقود:
إن تدهور قيمة النقود أي انخفاض قدرتها الشرائية يؤدي إلى نقص كمية السلع والخدمات التي يمكن الحصول عليها بواسطة عدد معين من الوحدات النقدية مقارنة بالكمية التي كان يمكن الحصول عليها قبل هذا التدهور، ويترجم تدهور قيمة النقود في ارتفاع المستوى العام للأسعار، وفي الواقع أن مختلف العملات النقدية قد تعرضت إلى تدهور في قيمتها خلال تطورها التاريخي، وإن كانت نسبة هذا التدهور تختلف من عملة إلى أخرى.
ويعني تدهور قيمة النقود أن الزيادة في النفقات العامة تكون ظاهرية في جزء منها، أي لا ينتج عنها زيادة في القيمة الحقيقية للنفع المتحقق من هذه النفقات أو بمعنى آخر إن الزيادة في النفقات العامة قد تعود إلى ارتفاع الأسعار لا إلى الزيادة في كمية السلع والخدمات التي اشترتها أو أنتجتها النفقات العامة.ويعد تدهور قيمة النقود هو السبب الرئيسي في الزيادة الظاهرية في النفقات العامة في العصر الحديث.
2-اختلاف الفن المالي:
وهو يتعلق بإعداد الميزانية والحسابات العامة، فقد ترجع الزيادة في النفقات العامة إلى الاختلاف في الفن المالي وإلى اختلاف طرق قيد الحسابات المالية، فمن المبادئ الفنية المعروفة في إعداد الميزانية العامة للدولة، الأخذ بفكرة الميزانية الصافية أو الإجمالية، وتقوم فكرة الميزانية الصافية على ظاهرة تخصيص الإيرادات العامة، ومؤدى ذلك أن يسمح لبعض الهيئات والمؤسسات العامة مثلا أن تجري مقاصة بين إيراداتها ونفقاتها؛ بحيث تكون لها سلطة طرح نفقاتها من الإيرادات التي تقوم بتحصيلها، وبالتالي فإنه لا يظهر في الميزانية العامة للدولة إلا فائض الإيرادات على النفقات، وفكرة الميزانية الصافية كانت تتبع في الماضي، أما فكرة الميزانية الإجمالية فهي تقوم على أن كل النفقات العامة التي تنفقها المرافق والهيئات العامة تظهر في ميزانية الدولة التي تضم كافة النفقات والإيرادات العامة، وعليه فإن الأخذ بمبدأ الميزانية الإجمالية في سنة معينة، حيث تظهر كافة النفقات العامة للدولة إلى وجود قدر من الزيادة في حجم الإنفاق العام في هذه السنة مقارنة بالنسبة السابقة وتعتبر هذه الزيادة بالطبع زيادة ظاهرية بسبب تغيير القواعد المحاسبية للميزانية لا زيادة حقيقية في النفقات العامة.
3-زيادة مساحة الدولة:
إذا كان الإنفاق العام يتزايد لمجرد مواجهة التوسع في مساحة الدولة أو بزيادة عدد سكانها دون أن يمس الإقليم الأصلي أو السكان الأصليين فإن الزيادة في الإنفاق تكون مجرد زيادة ظاهرية، واتجاه النفقات العامة إلى التزايد في هذه الحالات يكون راجعا إلى التوسع في الخدمات العامة التي كانت تحققها الدولة من قبل، وإنما بسبب اتساع نطاق الحاجة إلى نفس أنواع الخدمات في المساحات الجديدة التي أضيفت لإقليم الدولة، أو لمواجهة حاجات السكان المتزايدون من تلك الخدمات والمنافع العامة، مما يؤدي إلى زيادة الإنفاق العام.
المبحث الثالث: الآثار الاقتصادية للنفقات العامة
لقد أدى التطور في جميع الدول إلى التوسع في الإنفاق العام بصفة مستمرة وإلى تنوعه وتغير هيكله، واستخدامه بهدف التأثير في الاقتصاد القومي وعلى كافة جوانب المجتمع سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو مالية.
وتتوقف الآثار الاقتصادية للنفقات العامة على عدة عوامل منها: طبيعة هذه النفقات، والهدف الذي ترمي إلى تحقيقه، وطبيعة الإيرادات اللازمة لتمويلها، والوضع الاقتصادي السائد.
لا يمكن الخوض في تفاصيل مختلف الآثار الاقتصادية لسائر أنواع النفقات العامة على الاقتصاد القومي وتحليلها تحليلا مستفيضا، إنما سنتعرض وبإيجاز لأهم الآثار بالنسبة لحجم الناتج القومي وطريقة توزيعه، وعلى حجم بعض الكميات الاقتصادية الكلية، كالاستهلاك والادخار والاستثمار، وذلك لكون أن هذه الآثار هي التي تعتمد عليها السياسة المالية الحديثة لمختلف الدول لإحداث آثار كمية وكيفية في اقتصادياتها، وينقسم هذا المبحث إلى مطلبين:
المطلب الأول: أهم الآثار الاقتصادية للنفقات العامة
تنقسم النفقات العامة تبعا لأغراضها إلى عدة أنواع مختلفة ويترتب عنها آثارا متعددة في شتى المجالات فهي تهدف إلى إشباع الحاجات الجماعية والتأثير في مختلف الكميات الاقتصادية، والتأثير في المستوى العام للأسعار، وفي توزيع الدخل القومي، وبالتالي التأثير في التوازن الاقتصادي العام، والآثار الاقتصادية للنفقات العامة قسمان: مباشر وغير مباشر.
I-الآثار المباشرة للنفقات العامة على الإنتاج والاستهلاك القوميين:
تقوم الدولة في العصر الحديث بنوعين رئيسيين من الوظائف في المجتمع، وظيفتها كدولة تقدم خدمات عامة للمواطنين، ووظيفتها كمنظم وتأخذ على عاتقها بعض أوجه النشاط الاقتصادي (أي الإنفاق الاستثماري) التي كانت من اختصاص الأفراد (الاقتصاد الخاص)، وعليه فالاقتصاد العام يمكن أن ينظر إليه بنظرتين: قطاع عام بالمعنى الضيق وهو ذو طابع تنظيمي وسيادي، وقطاع عام بالمعنى الواسع وهو ذو طابع إنتاجي واقتصادي، ولا شك أن لكل نوع من أنواع الإنفاق العام في هذين المجالين آثاره الاقتصادية المباشرة التي يتعين على المسؤولين عن السياسة المالية أخذها بعين الاعتبار عند اتخاذ قراراتهم بشأنها.
أ-الآثار المباشرة للنفقات العامة في الإنتاج القومي:
لا شك أن النفقات العامة تؤثر على الإنتاج والعمالة من خلال تأثيرها في حجم الطلب الكلي الفعلي، إذ تشكل هذه النفقات جزءا هاما من هذا الطلب تزداد أهميته بزيادة تدخل الدولة في حياة الأفراد، وعلاقة النفقات العامة بحجم الطلب وأثرها عليه يتوقف على حجم النفقة ونوعها، فالنفقات الحقيقية تمثل طلبا على السلع والخدمات، أما النفقات التحويلية فأثرها يتوقف على طريقة تصرف المستفيدين بهذه النفقات.
ومن جهة أخرى يرتبط أثر النفقة العامة في الإنتاج بمدى أثر الطلب الكلي الفعلي في حجم الإنتاج والعمالة، وهو ما يتوقف على مدى مرونة الجهاز الإنتاجي أو مستوى العمالة والتشغيل في الدول المتقدمة، وعلى درجة التنمية الاقتصادية بالبلدان النامية، وتأثير النفقات العامة على الإنتاج القومي يدعو إلى التأمل في الأنواع الرئيسية لتلك النفقات (بغض النظر عن تقسيماتها) لبيان مدى الأثر الذي تحدثه في حجم الإنتاج.
وأول هذه الأنواع:
1-النفقات الإنتاجية: وهذه النفقات سواء تولتها الدولة مباشرة عن طريق قيامها بالإنتاج (الدولة المنتجة) أو عملت على مد بعض المشروعات الخاصة أو العامة بها في شكل إعانات اقتصادية لتحقيق هدف اقتصادي معين، فهي تساعد بشكل عام على إنتاج السلع المادية والخدمات العامة اللازمة لإشباع الحاجات الاستهلاكية للأفراد، كما تنتج رؤوس الأموال العينية المعدة للاستثمار (أموال الاستثمار)، ويعتبر هذا الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري من النفقات المنتجة التي تؤدي إلى زيادة حجم الدخل القومي ورفع الكفاءة الإنتاجية للاقتصاد القومي.
وقد تمنح الدولة بعض المشروعات الخاصة أو العامة وإعانات اقتصادية لتحقيق أغراض مختلفة منها التدخل في سياسة الأثمان ومحاربة التضخم في بادئ الأمر ثم تطورت وظيفة هذه الإعانات تطورا كبيرا، فالبنسبة للإعانات الاقتصادية للمشروعات الخاصة يمكن أن نميز بين نوعين أساسيين هما:
1/-إعانات تعطي بهدف سد العجز الناتج عن نشاط المشروع قصد تشجيع نوع معين من النشاط الاقتصادي مما يحفز المنظمين على الاستمرار في هذا النشاط.
2/-وإعانات تمنح لمساعدة المشروع على تجهيز نفسه بالمعدات والوسائل اللازمة لنشاطه الإنتاجي.
ومن أبرز الآثار المرجوة من وراء هذه الإعانات: هو توجيه الاستثمارات الوجهة التي تراها الدولة كفيلة بتحقيق أهدافها: سواء المتعلق منها بالتنمية الاقتصادية أو توازن ميزان المدفوعات، والعمل على زيادة معدل تكوين رأس المال، وبالتالي المحافظة على معدل نمو الناتج القومي.
أما عن الإعانات الاقتصادية التي تقدمها الدولة للمشروعات العامة فمبررها هو كون أن بعض هذه المشروعات لا يسعى من وراء قيامه بنشاطه إلى تحقيق الربح، بل وقد يعرض إنتاجه بسعر يقل عن سعر التكلفة إشباعا للحاجات العامة الضرورية التي تجد الدولة نفسها مضطرة لأخذ أمر إشباعها على عاتقها مثل إنتاج مياه الشرب والكهرباء، كما وأن البعض الآخر يقوم بنشاط إنتاجي هو في الأصل من مجالات النشاط الخاص ولكن الدولة ترى أن القيام بها يحقق فلسفتها الاقتصادية والاجتماعية.
وتهدف الدولة من وراء ما تقدمه من إعانات للمشروعات العامة التي تعمل في مجال إشباع الحاجات الضرورية إلى إعادة التوازن المالي لهذه المشروعات وسد عجزها والحفاظ على استمرار نشاطها لما له من نفع عام.
أما الإعانات الممنوحة للنوع الثاني من المشروعات العامة فتستمد أسبابها من واقع التطور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع أو لاعتبارات فلسفية تتمثل في الالتزام بتطبيق إيديولوجية معينة.
2-آثار النفقات الاجتماعية: هذه النفقات سواء اتخذت شكل تحويلات نقدية في صورة تحويلات نقدية معينة أو شكل تحويلات عينية في صورة سلع وخدمات فهي تؤثر على الإنتاج القومي، وتهدف التحويلات النقدية إلى تحويل جزء من القوة الشرائية لصالح الفئات الفقيرة أو لذوي الدخل المحدود كإعانات البطالة ومختلف مساعدات التضامن الاجتماعي، وإنفاق هذه الفئات المستفيدة من التحويلات النقدية على السلع والخدمات الاستهلاكية الضرورية سيؤدي إلى زيادة الطلب الفعلي وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة الإنتاج.
أما التحويلات العينية فمن آثارها المباشرة تشجيع استهلاك بعض الفئات الضعيفة اقتصاديا لسلع وخدمات معينة تعطيها الدولة الأولوية وترى فيها تحقيقا لأهدافها الاقتصادية والاجتماعية.
أما النفقات الاجتماعية التي تتخذ صورة الإعانات أو التحويلات المباشرة فإنها تؤدي إلى زيادة الإنتاج بشكل ملموس، فهي تعمل على زيادة إنتاج السلع والخدمات الاستهلاكية كنفقات الصحة والتعليم والثقافة والإسكان والمياه الصالحة للشرب …الخ وهي تؤدي إلى رفع المستوى الاجتماعي للأفراد وتمكينهم من أداء نشاطهم بكفاءة أكبر.
3-أثر النفقات العسكرية أو الحربية:
تمثل النفقات العسكرية عبئا كبيرا في ميزانيات معظم الدول الحديثة والبحث عن آثارها يثير العديد من الصعوبات الناتجة عن خروج هذه النفقات في كثير من الأحيان عن النطاق الاقتصادي إلى المجال السياسي والاستراتيجي البحت.
وقد كان الفكر التقليدي يعتبر النفقات العسكرية من بين النفقات التي تذهب للاستهلاك غير المنتج، بينما يميل الفكر الحديث إلى التمييز بين نوعين من الآثار التي تطرأ على الإنتاج القومي من جراء هذا الإنفاق وهما الآثار الانكماشية والآثار التوسعية.
قد تحدث النفقات العسكرية أثرا انكماشيا في حجم الإنتاج القومي وذلك في الحالات التي يترتب عليها تحويل جزء من الموارد المادية والبشرية المتاحة من الاستعمال المدني إلى الاستعمال العسكري، مما يؤدي إلى انخفاض حجم الإنتاج القومي، وإلى ارتفاع أثمان عناصر الإنتاج، وبالتالي ارتفاع أثمان المنتجات وانخفاض الطلب الاستهلاكي.
ومع ذلك فمن المتصور أن يترتب عن النفقات العسكرية أثرا توسعيا على حجم الإنتاج القومي وذلك في حالات متعددة، منها الأحوال التي تستخدم فيها هذه النفقات في إنشاء صناعات معينة أو إنشاء المطارات والموانئ والطرق والسدود يفيد منها الاقتصاد القومي في الإنتاج المدني فيما بعد الحرب، وحتى قبل انتهائها إذا زادت عن حاجة الإنتاج الحربي، كذلك فكثيرا ما يتولد عن الإنفاق العسكري تقدم علمي في فنون الإنتاج، إذ تخصص نسبة هامة منه للبحوث العلمية وعلى الأخص في الدول المتقدمة، بما يفيد في نهاية المجالين الحربي والمدني على السواء.
وبشكل عام فإن النفقات العسكرية تؤثر في الأوضاع الاقتصادية السائدة في الدولة وتتأثر بها، فمن جهة تعوق التوسع في الإنتاج وتستخدمه في شراء الأسلحة والمعدات الحربية من الخارج مما يسجل عجزا في ميزان المدفوعات أما إذا كانت النفقات العسكرية تصرف في سبيل إنشاء صناعات في الداخل فإنها تعمل على زيادة حجم الدخل القومي.
ب-الآثار المباشرة للنفقات العامة في الاستهلاك القومي:
تؤثر النفقات العامة في الاستهلاك القومي بطريق مباشر، وذلك عن طريق الزيادة الأولية في الطلب على أموال الاستهلاك نتيجة للإنفاق العام ويمكن تتبع هذا النوع من الآثار من خلال نفقات الاستهلاك الحكومي أو العام ومن خلال النفقات التي توزعها الدولة على الأفراد في شكل مرتبات أو أجور تخصص نسبة منها لإشباع الحاجات الاستهلاكية من السلع والخدمات.
1-فالبنسبة لنفقات الاستهلاك الحكومي أو العام: يبدو أثرها على زيادة الاستهلاك من خلال ما تقوم به الدولة في سبيل إشباع الحاجات العامة من إنفاق، وقد يتخذ الاستهلاك الحكومي صورة شراء سلع أو مهمات تتعلق بأداء الوظيفة العامة أو تلزم الموظفين العموميين أو لأعمال المرافق والمشروعات العامة.
2-نفقات الاستهلاك الخاصة بالدخول الموزعة على الأفراد: تبدأ آثار هذه النفقات عندما تقوم الدولة بتخصيص جزء من النفقات العامة لدفع مرتبات وأجور ومعاشات لموظفيها وعمالها الحاليين والسابقين، ويخصص الجزء الكبر من هذه الدخول الموزعة على الأفراد لإشباع الحاجات الاستهلاكية الخاصة من السلع والخدمات، وتعتبر نفقات الدولة في هذه الحالة مقابل ما يؤديه عمالها من أعمال أو خدمات، ولذلك فهي تعتبر من قبيل النفقات العامة المنتجة، حيث تؤدي مباشرة إلى زيادة الإنتاج الكلي.
II-الآثار غير المباشرة للنفقات العامة على الإنتاج والاستهلاك
بحث أثر المضاعف والمعجل:
عادة ما تحدث النفقات العامة آثارا غير مباشرة على الاستهلاك وعلى الإنتاج من خلال الأثر الخاص يعاملي المضاعف والمعجل، فالنفقات لا تؤثر فقط على الاستهلاك بتأثير عامل المضاعف، ولكنها تعود فتؤثر على الإنتاج كنتيجة غير مباشرة لعمل المضاعف نفسه، وكذلك القول بالنسبة لأثر عامل المعجل أنه لا يؤثر على الإنتاج فقط ولكنه يعود فينتج أثره غير المباشر على الاستهلاك أيضا.