عمرُو بن أحمر الباهلي الشاعِر المخضرَم - محمد محي الدّين مينو
آخر
الصفحة
محبة التوحيد

  • المشاركات: 133853
    نقاط التميز: 35880
مشرفة سابقة
محبة التوحيد

مشرفة سابقة
المشاركات: 133853
نقاط التميز: 35880
معدل المشاركات يوميا: 20.9
الأيام منذ الإنضمام: 6413
  • 18:26 - 2011/07/05

عمرُو بن أحمر الباهلي الشاعِر المخضرَم - محمد محي الدّين مينو

إن لابن أحمر مكانة مهمة في لغة العرب وديوانهم، إذ كان شاعراً فصيحاً مُقدماً على غيره من الشعراء المخضرمين في فنون الشعر وغريبه، فاستُشهد على اللغة بشعره كثيراً، حتى لا يكاد مصدر من مصادرها يخلو من بيت له، وجعله غير واحد من النقاد القدامى فوق طبقته، ومع هذا غفل عنه مؤرخو الأدب ودارسوه، فلم يحظ باهتمام علمي، يليق بمكانته لدى القدماء، فمن ابن أحمر؟.

1-نسبه وأسرته:

إن شاعرنا هو عمرو بن أحمر الباهلي من بني معن بن مالك بن أعصُر (1)، ولا خلاف في ذلك، ولكن الخلاف نجده في نسب ابن أحمر الذي يصل بينه وبين "معن بن مالك أعصر". فأبو زيد القرشي في جمهرة أشعار العرب، والمرزباني في معجم الشعراء أوردا نسبه على هذا النحو: "عمرو بن أحمر بن العمرَّد بن عامر بن عبد شمس بن عبد بن فرَّاص بن معن بن مالك بن اعصر" (2)، وأورد نسبه ابن سلام في طبقات فحول الشعراء (3)، وأبو الفرج في الأغاني (4)، والآمدي في المؤتلف والمختلف (5)، والمرزباني مرة أخرى في معجم الشعراء (6)، وابن حجر في الإصابة (7)، والزبيدي في التاج (8)، ولكن ثمة شيئاً من الاختلاف بين هذه المصادر، فقد ورد عند ابن سلام والمرزباني وابن حجر (9): "العمرَّد بن تميم بن ربيعة ابن حرام بن فرَّاص"، وعند أبي الفرج: "عبد شمس بن فرَّاص"، وعند الآمدي: "عبد بن قدام بن قرَّاص" بالقاف، وهو تصحيف، ونقل الآمدي عن ابن الكلبي ما أورده في جمهرة النسب، فقال: "عامر بن عمرو بن عبيد بن قرَّاص"، وورد عند الزبيدي: "العمرَّد بن عمرو بن فرَّاص".

واختصر نسبه ابن قتيبة في الشعر والشعراء (10)، والبكري في سمط اللآلئ (11)، والبطليوسي في الاقتضاب (12)، وقالوا: "عمرو بن أحمر بن فرَّاص بن معن"، وقال ابن الجراح: "عمرو بن أحمر بن العمرَّد الباهلي من بني فرَّاص" (13).

وتتفق هذه المصادر كلها على أن ابن أحمر من بني فراص بن معن، ولكن الخلاف الغريب إنما يطالعنا فيما أورده ابن الشجري في أماليه، إذ قال: "هو عمرو بن أحمر بن العمرَّد بن عامر بن عبد شمس بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان بن مضر" (14). وهذا النسب غريب، تفرد به ابن الشجري في أماليه، ثم نقله عنه البغدادي في خزانة الأدب (15)، ولم نقف على أثر له في غير الأمالي والخزانة، فابن الشجري يجعل "عبد شمس بن معن"، فيختصر حلقة بارزة من حلقات نسبب ابن أحمد، وهي فيما أورده القرشي والمرزباني: (عبد بن فراص" (16)، إذ ليس في أولاد معن بن مالك مَن سمي عبد شمس (17).

والمهم أن ابن أحمر من بني فراص بن معن بن مالك بن أعصر، وأما كنيته، فلم نجد له سوى كنية واحة، إذ كان "يكنى أبا الخطاب" (18)، ولكنه لم يكن يعرف بكنيته أو بلقبه، وإنما يذكر باسمه، فيقال: ابن أحمر، فيميز بينه وبين من سمي باسمه من الشعراء، ولهذا يراه الطيالسي ممن "عرف باسمه دون لقبه" (19)، ويؤكد ذلك ابن الأثير في المرصع، فيذكره في الأبناء من معجمه، ويقول: "ابن أحمر: هو عمرو بن أحمر الباهلي، شاعر معروف، يستشهد على اللغة بشعره كثيراً، فيقال: ابن أحمر، ولا يذكر له اسم" (20).

وإذا سألنا صاحب المؤتلف والمختلف عمن عرف باسم "ابن أحمر" في ديوان العرب، فسنظفر بثلاثة شعراء، يعرفون به غير ابن أحمر الباهلي، وأحدهم: "ابن أحمر البَجلي ثم العَتكي، أحد بني العَتيك بن الرَّبعة بن مالك بن سعد بن زيد بن قَسر بن عَبقر بن أنمار ابن إراش بن عمرو بن الغَوث بن الفِزر بن نَبت بن زيد بن كهلان بن سبأ. وابن أحمر هذا إسلامي قديم، وشاعر مجيد، وصاف للحيات، وعلى قوله احتذت الشعراء، وهو القائل:

قد كاد يأكلني أصمّ مرقّش... "القصيدة" (21).

والآخر: "ابن أحمر الكناني، وهو هُنَي بن أحمر من بني الحارث بن مُرَّة بن عبد مناة ابن كِنانة بن خُزيمة، جاهلي، وهو القائل:

[يا] ضَمْر أخبرني ولست بمخبري... (القصيدة)" (22).

والثلاث: "ابن أحمر الأيادي، ولم يقع ؟؟ من شعره كبير شيء، ووجدت له في كتاب غياد بيتاً واحداً، وهو:

هل يَنْهِيَنَّك عن نُوك وعن حمق
 
 مَنْ بالجزيرة من برد ودُعْمِيِّ (23)
 

وتتبعت سائر من يقال له: "ابن أحمر" في ديوان شعرنا العربي (24)، فوجدت المرزباني في معجم الشعراء يذكر اثنين منهم، وأحدهم: "عوف بن عبد الله بن الأحمر الأزدي: شهد مع علي – عليه السلام – صفين، وله قصيدة طويلة، رثى فيها لاحسين، عليه السلام، وحض الشيعة على الطلب بدمه، وكانت هذه المرثية تخبأ أيام بني أمية، إنما خرجت بعد ذلك، قاله ابن الكلبي، فيها:

ونحن سمونا لابن هند بجَحْفل.... (القصيدة)" (75).

والآخر: "عطاء بن أحمر المديني: أحد ظرفاء المدينة المعدودين، يير الشعر ضعيفه، له قصيدة يذم فيها جواري القيان، أولها:

لا تعتبن على القيان ولا تُرِد
 
 ودَّ القيان فانهن تِجار" (76).
 

ولعل ابن أحمر هذا هو الشاعر نفسه الذي روى له الوشَّاء في الموشَّى (27) قصيدة رائية، يذم فيها القيا، ويصف ظرفه معهن، ولعله الظريف نفسه الذي عناه الجاحظ بقوله: "ولو أن رجلا ألزق نادرة بأبي الحارث جمَّين والهيثم بن مطهر وبمزيّد وابن أحمر، ثم كانت باردة لجردت على أحسن ما يكون" (28). ويبدو أن هذا الشاعر الظريف قد حظي بكبير اهتمام، فجمع بعضهم أخباره ونوادره في كتابين، يذكر ابن النديم في الفهرست (29) أحدهما – وهو "كتاب ابن أحمر) – في (أحاديث البطالين لا يعرف من صنفها)، والأخر – وهو "نوادر ابن أحمر" – في (أسماء قوم من المغفلين ألُفَّ في نوادرهم الكتب)، فلا يساورنا أدنى شك في اضطراب بين هذا الشاعر المغفل وشاعرنا ابن أحمر الباهلي.

وإذا أردنا البحث عن أسرة ابن أحمر لم يكن ذلك بالأمر الميسور، إذ أننا لا نجد حديثاً واضحاً عن أسرته في مصادرنا القديمة، وكل ما نعرفه أشتات بسيطة، لا تكاد تبرز جوانب صورة بيت شاعرنا بوضوح.

والظاهر أن ابن أحمر عاش في بيت متواضع، لا يمتاز بشيء من صيت أو شهرة، شأنه في ذلك شأن قبيلته باهلة، والرواة لا يذكرون شيئاً من أخبار أجداده غير ما حدثنا اليزيدي عنه، فقال: "كان العَمَرَّد جد عمرو بن أحمر الباهلي، فطعن رِجْل يزيد بن الصَّعِق، فعرجت في وقعة كانت بينهم" (30)، ثم أنشد اليزيدي في تلك الوقعة رجزاً، يُروى لابن أحمر وعمه تميم بن العمرد معاً، فقال (31):

أبي الذي أخْنَبَ رجل ابن الصَّعق
 
إذ كانت الخيل كعِلباء العُنُق

ولم يكن يرده الجِبْس الحَمِق
 

وسواء أصح هذا الرجز لتيمم بن العمرد أم لم يصح، فإن الطَّيَالِسِي أنشد له شعراً في أعشى بني بَيْبَة، فقال (32):

فمن مُبلغ أعشى بني بَيْب أنني
 
 وإن ضَجَّ مني بالذي خاف واقِع
 
لك الويل ما يدريك علِّ اجتماعنا
 
 لظهركَ في يوم الحفيظة مانع (33)
 

والرواة ما كانوا لينسبوا شيئاً إليه لو لم يدركوا له شعراً قليلاً كان أم كثيراً، فالأرجح أن عمه كان شاعراً، ولعل والد ابن أحمر كان يرتجز كأخيه تميم، فقد روى أبو عمرو الشيباني هذا الرجز لأبي العمود (34):

تشكو إلى الأدنَين والأقارب
 
من أسد في الرَّحْل غير كاسب
 
ليث على ما جمَّعت قُراضِب (35)
 

فإذا صح لدينا أنه اختص بهذه الكنية دون سائر أخوته، فإننا نؤكد أنه كان يرتجز حقاً، ولكن المصادر لا تسعفنا بالخبر اليقين، فيبقى الأمر مجرد ظن بحت.

وروى ابن بري شعراً مضطرباً بين ابن أحمر والأزرق بن طرفة بن العمرد بن الفَرَّاصي (36)، فلعل الأزرق ابن عمه كان شاعراً أيضاً، وابن السيرافي يحدثنا عنه، فيقول: "تنازع ناس من بني باهلة مع بني فَرَّاص وناس من بني قُرّة بن جبيرة بن سَلَمة بن قُشير، حتى صاروا إلى السلطان، فقال بعض القشريين للسلطان: إن الأزرق بن طرفة – وهو من بني باهلة – لص بن لص، ليُغروه به، فقال قصيدة، فيها:

رماني بأمر كنت منه ووالدي
 
 بريئاً ومن أجل الطَّوِي رماني
 
دعانيَ لصاً من لصوص وما دعا
 
 بها والدي فيما مضى رجلان" (37)
 

وأما والد ابن أحمر وأخوته فلم نعثر على شيء من أخبارهم غير ما أورده ابن رشيق في العمدة، فسمى أخوين له في مَن لم يُعرق في الشعر، فقال: "عمرو بن أحمر، وأخواه: سِنان وسيَّار" (38)، وفي كلام ابن رشيق ما يدل على أن بيت ابن أحمر لم يكن مُعْرقاً في الشعر، فليس في أيدينا من الدلائل ما يشير  إلى  أن والده وجده كانا شاعرين، أو أن هذا المر قد تكرر في أولاده وأحفاده.

وإذا دلفنا إلى بيت ابن أحمر نفسه، فإن المصادر القديمة لا تسعفنا بشيء من الأخبار حول زوجه وأبنائه، ولكننا نعرف أنه كان متزوجاً، وأن العلاقة بينه وبين زوجه كانت غير ودية، وذلك مما أنشده الأنباري، فقال: "قال ابن أحمر يذكر امرأته:

رمتني بهَوْرات الذنوب وباعدت
 
 فراشي فيا للناس ماذا يُليقها" (39)
 

ويبدو أن هذه العلاقة قد انتهت بالطلاق، فهو يذكر أنها كانت ترجو في الطوائف زوجاً آخر سواه، فتتركه منبوذاً وحيداً:

أمست تَخَيَّر في الأشياع أيهمُ
 
 ترضى وأمسيتُ بواً نائياً جَسَدا (40)
 

ولهذا نراه يرغب بها عن كل مسترخ مستكين، ويرغّب إليها كل أريحي شجاع، و"يقول لامرأته" (41):

فلا تصلي بمطروق إذا ما
 
 سرى في الرَّكب أصبح مُستكينا
 
مطيع لا يُطاع ولا يُبالي
 
 أغَثَّاً كان حالكِ أم سَمينا
 
يظل أمام بيتك مُجرعِبَّاً
 
 كما ألقيت بالمَتن الوضينا
 
إذا شرب المُرِضَّة قال أوكي
 
 على ما في سِقائك قد روينا
 
إذا اشتد الزمان أكَبَّ لَغْياً
 
 فلا قِدْحاً يدر ولا لَبونا
 
وكوني إن هلكت لأريحي
 
 من الفتيان لا يضحي بطينا
 
كان الصقر يقلب مقلتيه
 
 إذا نفض العيوب وقد خفينا
 
كأن الليل لا يأتي عليه
 
 إذا زجر السبنداة الأمونا
 
يصيب مغارماً في القوم قصداً
 
 وهن لغيره لا يبتغينا
 
فما كلفتك القدر المغبى
 
 ولا الطير الذي لا تعبرينا (42)
 

ونقع على رواية أخرى للأبيات، تنشدها بعض المصادر، وتقول: "فبلي يا غني بأريحي" (43)، فنعرف أن هذه الزوج كانت تدعى غنية، ولكن ابن أحمر رخمها، فقال: غني، ومما يؤكد ذلك أن هذه التسمية قد ذكرها غير مرة في شعر آخر له، فقال:

زعمت غنية أن أكثر لمتي
 
 شيب وهان بذاك ما لم تزدد
 
لما رأت غرباً هجائن وسطها
 
 مرحت وجالت في الصراح الأبعد (44)
 

وقال:

وما بيضاء في نضد تداعى
 
 ببرق في عوارض قد شرينا
 
يضيء صبيرها في ذي حبي
 
 جواشن ليلها بينا فبينا
 
بأحسن من غنيّة يوم راحت
 
 وجارتها ومن أم البنينا (45)
 

ولعلنا نلمح في هذا الشعر سبباً مهماً من أسباب الخلاف بينهما، فهو شيخ طاعن في السن، يشكو – كما سنرى – عوراً في عينه وسقياً في بطنه، وهي امرأة شابة، تمرح بنشاطها وحيويتها، فتتمادى في مواجهته والاستخفاف به.

وابن أحمر يذكر في شعره نساء أخريات، هن: ليلى والحارثية ومي وخنساء وكنانية وجدوى، ولا ندري من أمرهن شيئاً غير هذه الأسماء التي قد تكون لامرأة واحدة، يكنى بها عن اسمها الحقيقي الذي يريده.

2- نشأته وصلاته:

إذا كانت المصادر القديمة قد ضنت علينا بأخبار أهل بيته وأحوالهم، فحياته لم تكن بأوفر حظاً من ذلك، فقد شغلت هذه المصادر بما أتى به من حروف الغريب والفصيح واللغة، وأغفلت أخبار نشأته ومراحل حياته، فلا نكاد نجد شيئاً من سيرته الأولى.

ولهذا فنحن لا ندري متى ولد، وكيف شب وتدرج، ومع ذلك كله لابد لنا أن نلتمس شيئاً عن نشأته من خلال ما عثرنا عليه من أخبار يسيرة في أضعاف تلك الصادر، وما نجده في قصائد ابن أحمر نفسه.

وأقدم ما نجده من إشارات إلى نشأته الأولى ما رواه ابن قتيبة عن أبي عمرو بن العلا (154هـ)، فقال: "قال أبو عمرو بن العلاء: كان ابن أحمر في أفصح بقعة من الأرض أهلاً، يذبل والقعاقع، يعني مولده قبل أن ينزل الجزيرة ونواحيهأ" (46)، فنشأ هذا الطفل الأعرابي في أحضان بادية نجد، وتهيأت له سبل الفصاحة، حتى أمكن له أن يكون "صحيح الكلام كثير الغريب" (47)، ثم يكون "الشاعر الفصيح"الذي يتقدم شعراء أهل زمانه (48). وان كان أبو عمرو بن العلاء قد حدد مولده بنجد، فليس من مصدر أخر يحدد بوضوح الزمن الذي ولد فيه ابن أحمر، ولكن ثمة اتفاقاً بين العلماء على الإسلام، حتى كان شاعراً "من شعراء الجاهلية المعدودين" (50)، قال فيها قصائد كثيرة، ولعل معنى ذلك أنه كان في نحو العشرين من عمره على أقل تقدير، وإذا كان ابن أحمر قد أدرك العقد الأول من ولاية عبد الملك بن مروان (73 – 86 هـ) (51) حين شكا ظلم السعاة إلى يحيى بن الحكم بن أبي العاص، واليه على المدينة سنة خمس وسبعين للهجرة (52)، فهذا يعني أنه قد عمِّر نحو خمس وتسعين، ويؤكد هذا أيضاً أنه قد ولد قبل الهجرة بنحو عشرين سنة.

ويكاد هذا الشطر من حياته يكون غامضاً أشد الغموض، وذلك لأننا لا نعرف خبراً واحداً، يضيء لنا جنباً ما من جوانب هذه الفترة التي قضاها في الجاهلية، ولهذا نضطر  إلى  أن نستقرئ شعره، فنراه في أغلب قصائده يتحسر على أيام شبابه، ويندب ما يلاقيه من صروف الدهر، وفي هذا ما يدل على أن تلك القصائد لم تنظم إلا في فترة متأخرة من حياته، وإذا ما بحثنا في شعره عن ذكريات الشباب، فإننا لا نجد سوى ذكرى مجلس لهو وشراب، لا يدانيه في سموه غير مجالس الملوك، وهو يصطخب بغناء القيان وموسيقى العود والصنج، ويعبق بريح الكؤوس والقدور:

ولقد غدوت وما يفزِّعني
 
 خوف أحاذره ولا ذعر
 
رؤد الشباب كأنني غصن
 
 بحرام مكة ناعم نضر
 
كشراب قيل عن مطيته
 
 ولكل أمر واقع قدر
 
مد النهار له وطال عليـ
 
 ـه الليل واستنعت به الخمر
 
وسمفَّة دهماء داجنة
 
 ركدت وأسبل دونها الستر
 
وجرادتان تغنيانهم
 
 وتلألأ المرجان والشذر
 
ومجلجل دان زبرجده
 
 حدب كما يتحدب الدبر
 
ونَّان حنَّانان بينهما
 
 وتر أجش غناؤه زمر (53)


 

ولما خمدت نشوة الذكرى، وأحس ابن أحمر أن الشباب قد ولى، بدا للشاعر الحكيم أن طريق اللهو بطل وضلالة:

خلو طريق الديدبون فقد
 
 ولى الصبا وتفاوت النجر (54)
 

ويبدو من خلال قوله: "كأنني غصن بحرام مكة ناعم نضر" أن هذا الفتى النجدي كان يرتحل إلى الحجاز، ولكننا لا نقوى على تحديد ذلك بوضوح ودقة، وذلك لأننا لا نجد من أخبار تلك الرحلات إلا مثل هذه الإشارة إلى بعض بلاد الجاز.

وهذا المجلس الوحيد في شعره ينم عن شبابه فتى، لم يكن ماجناً، إذا ما قورن بما نراه من طرفة بن العبد وامرئ القيس مثلاً، أو بما يعرفه ابن أحمر نفسه عن الملك الضليل ولهوه بهند وهر وفرتنى.

وأما قصائد الشباب، أو ما قاله في الجاهلية، فقد كان كثيراً، حتى أن الأصفهاني قال: "قال في الجاهلية والإسلام شعراً كثيراً" (55)، ولكنه لم يصل إلينا منه سوى أبيات يسيرة، ترتبط بأحداث جاهلية معينة، لا نجد بين أيدينا وسيلة إلى تحديد زمنها بدقة، ولعل أوضح مثال نسوقه هنا ما أنشده ابن أحمر في سلَّى، وهو يوم لباهلة على بني ضبة، فقال:

مني لك أن تلقى ابن هند منية
 
 وفارس مياس إذا ما تلببا
 
وحجلا أبا عمرو وقرة ذا الندى
 
 وزهراً وغلاَّقاً ويا لك مقنبا
 
عرانين من عبد بن غنم أبوهم
 
 هجان فسامى في الهجان وأنجبا
 
فوارس سلَّى يوم سلى وساجر
 
 إذا هرَّت الخيل الحديد المذرَّبا
 
لدن غدوة حتى كررن عشية
 
 وقربن حتى ما يجدن مقرَّبا
 
تداركن حياً من نمير بن عامر
 
 أسارى تسام الذي قتلا ومحربا
 
فلم أر يوماً كان أكثر غارة
 
 وشمساً أبت أطنابها أن تقضبا (56)
 

وأمام تلك الأشتات التي نلملمها من أضعاف كتب اللغة والأدب ولا نكون مغالين إذا ما قلنا: أن طائفة مهمة مما قاله ابن أحمر في الجاهلية قد فقدت، شأنه في ذلك شأن كثير من شعراء الجاهلية الذي أغفل ذلك الجانب المهم حياتهم.

وقد حاول الدكتور حسين عطوان أي يقول شيئاً في هذا الأمر، فزعم "أن ما بقي من  شعره لا ينبئ بأنه قال شعراً كثيراً أو قليلاً في الجاهلية، وقد تكون بعض أشعاره التي نظمها في الجاهلية قد ضاعت، ولم تصل إلينا" (57)، إلا أن الدكتور عطوان في مناقشته هذا الأمر كان حازماً جازماً، فقال الكلمة الأخيرة في أشتات، لا يملك أمامها الباحث غير أن يتريث، حتى يقف على نسخة من ديوان ابن أحمر، نرجو أن يجود بها الزمان.

وإذا ما نظرنا إلى علاقة ابن أحمر بقومه، وهو في مطلع شبابه، لم نجدها ودية، وربما أوشكت أن تصل إلى حد خلعه وهدر دمه، ويذكر ذلك على لسان زوجه، فيقول:

تقول حليلتي بشَراءَ إنا
 
 نأينا أن نزور وأن نُزارا
 
عليكَ الجانب الوحشي اني
 
 سمعت لقومنا حَلِفاً حَرارا
 
لئن ورد السُّمار لنقتلنْه
 
 فلا وأبيكَ لا أرد السمارا
 
أخاف بَوائقاً تسري إلينا
 
 من الأشياع سراً أو جَهارا (58)
 

والمصادر القديمة لا تسعفنا بالأسباب، ولكن القصيدة ذاتها تشير إلى طرف خفي من هذا الخلاف، إذ بدا أن قريباً له نال من عرضه قدحاً وذماً، فهجاه ابن أحمر، وقال:

أرانا لا يزال لنا حميم
 
 كداء البطن سِلاً أو صُفارا
 
يعالج عاقراً أعيت عليه
 
 ليُلْقِحَها فينتجها حُوارا
 
يدنس عرضه لينال عرضي
 
 أبا دَغْفاءَ ولِّدْها فَقارا
 
ويزعم أنه نازٍ علينا
 
 بِشرَّته فتاركُنا تَبارا (59)
 

ويظهر أن ابن أحمر لم يسلم في غمرة هذا الخلاف من بوائق قومه، ويذكر الرواة أن مَخْشِيّاً – ولعله أحد رجالهم – رماه بسهم، ففقأ عينه (60)، ففرح لئام قومه بما أصابه:

تُسائل بابن أحمرَ من رآه
 
 أعارت عينه أم لم تَعارا
 
فان يفرح بما لاقيتُ قومي
 
 لئامهمُ فلم أُكثر حِوارا (61)
 

ونظن أن ذاك الخلاف اضطر ابن أحمر إلى أن يودع ركابه رجلاً من بني سعد، ويذكر ابن دريد هذا، ويقول: "كان ابن أحمر أودع إبله وراعيها رجلاً من بني سعد، فأغار عليها قوم منهم، فأخذوها، ولم يسع الخفير فيها" (62)، فهجاهم، وقال:

لا صابَ جارهمُ الربيع ولا
 
 زادت حُمولته على عَشْر
 
طرق الخَناسِرَةَ اللئام فلم
 
 يسع الخفير بناقة القَسْر
 
لو كنتُ ذا علم علمتُ وكيف لي
 
 بالعلم بعد تدبّر الأمر
 
لو بي تحمّست الرَّكاب إذاً
 
 ما خانني حَسَبي ولا وَفْري (63)
 

ثم تهددهم بداهية عظيمة، تأتيهم، فتصمهم، ان لم يردوا عليه إبله، وقال:

فردّو ما لديكم من رِكابي
 
 ولما تأتكم صَمِّي صَمام (64)
 

ويبدو أن ابن أحمر كان صاحب رعي وركاب، يخرج وراعيه القَسْر (65) بها إلى المرعى، كما يقول:

أنكَ لو رأيتني والقَسْرا
 
 مُجَشَّرِيْنَ قد رعينا شهرا
 
لم تر في الناس رِعاءً جَشْرا
 
 أتمّ منا قَصَباً وسيرا (66)
 

ويذكر اسم راع آخر له، هو كَنَّاز (67)، ويدعو عليه بالهلاك، فيقول:

أقول لكنَّاز تَدَكَّلْ فانه
 
 أبا لا أظن الضَّانَ منه نَواجيا
 
فمالك من أروى تعادَيْت بالعمى
 
 ولاقيت كَلاَّباً مُطِلاً وراميا (68)
 

ثم استبدل بالرعي حين نزل الجزيرة حياةً حضرية، لم تعجب هذا البدوي:

تبدلتَ إصطبلاً وتلاً وجرة
 
 وديكاً إذا ما آنس الفجرَ فَرْفَرا
 
وبستانَ ذي ثورين لا لينَ عنده
 
 إذا ما طغى ناطوره وتَغَشْمرا (96)
 

وأما في كهولة ابن أحمر، فالذي يبدو أنه كان ضعيف الصلة بأكثر الأحداث في عصره وبأكثر الأمراء والخلفاء الذي عاصرهم، فإذا كنا قد وجدنا أبياتاً معدودة، يمدح فيها ابن أحمر خليفة، أو يثني على أمير، فليس ثمة ما يشير إلى أنه قد اتصل حقيقة بهؤلاء. والمصادر القديمة لا تنكر لابن أحمر صلاته ببعض رجال عصره وأحداثه، وهي صلات تكاد تكون غير وثيقة، أو أن أخبارها قد انقطعت فلم يصلنا منها غير القليل القليل.

ففي فهد النبوة لا نعرف البتة لابن أحمر مشاركة في الدعوة الإسلامية، ولا نعلم متى أسلم، وكيف كان إسلامه، وإذا سألنا ابن حجر عن إسلامه وصحبته وجدناه في الإصابة يجعله في قسم المخضرمين من الصحابة وينقل عن المرزباني قوله: "هو مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، فأسلم" (70).

ولابن أحمر في الإسلام فضل كبيرة، فقد كان أحد الفرسان المجاهدين في الفتوح الإسلامية، ويذكر ابن الجرّاح أنه "أسلم، وغزا مغازي الروم، وأصيب بعينه هناك" (71) ويرى المرزباني هذا فيقول: "غزا مغازي الروم، وأصيبت إحدى عينيه هناك" (72) ويروي أبو الفرج أنه "كان في خيل خالد بن الوليد حين وجه أبو بكر خالداً إلى الشام" (73) وينشد في خالد، رضي الله عنه، قوله:

إذا قال سيف الله كروا عليهم
 
 كررتُ بقلب رابط الجأش صارم (74)
 

ونظن أن ابن أحمر نزل الشام (75) في هذه الفترة من الفتوح، إذ ليس من وسيلة إلى تحديد زمن نزوله مع عشيرته جزيرة الشام وانتقالهم من البداوة والرعي إلى نمط جديد زمن نزوله مع عشيرته جزيرة الشام وانتقالهم من البداوة والرعي إلى نمط جديد من الحياة، لم يكن ابن أحمر راضياً عنه.

وأما علاقته بالخلفاء الراشدين، فقد ذكر الأصفهاني أنه "لم يأت أبا بكر" (76)، والمصادر لا تروي له شيئاً في مدحه والثناء عليه.

ويبدو أنه لم يأت أيضاً عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولكنه أثنى عليه وعلى قومه بقصيدة طويلة، ينشد أبو الفرج بعض ما بقي من أبياتها، فيقول: "قال في عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قصيدة له طويلة جيدة:

أدركت آل أبي حَفص وأسرته
 
 وقبل ذاك ودهراً بعده كَلِبا
 
قد ترتمي بقواف بيننا دول
 
 بين الهَناتَيْن لا جداً ولا لعبا
 
الله يعلم ما قولي وقولهمُ
 
 إذ يركبون جَناناً مُسْهباً ورِبا" (77)
 

ونجد صاحب الأغاني ينشد له في عثمان، فيقول: "وقال في عثمان بن عفان، رضي الله عنه:

حُيِّي فليس إلى عثمان مُرْتَجَعُ
 
 إلا العَداءُ والا مكْنَعْ ضَرَرُ
 
إخالها سمعت عزفاً فتحسبَه
 
 إهابةَ القَسْر ليلاً حين تنتشر" (78)
 

فكأن أبا الفرج يظن أن ابن أحمر قد قال هذا الشعر في مدح عثمان بن عفان، ولو نظرنا نظرة شاملة إلى مشوبة ابن أحمر التي أوردها القرشي في الجمهرة (79) وإلى موضع هذين البيتين منها، لعرفنا أن القصيدة ليست في ابن عفان بالذات، وإنما في يحيى بن الحكم بن أبي العاص، ولعل المقصود بعثمان هنا أحد عمال الصدقات الذين يشكو ابن أحمر إلى ابن أبي العاص ظلمهم وعَسْفهم.

وإذا كانت المصادر لم ترو له شيئاً في مدح عثمان بن عفان، فالظاهر أنه كان عثماني الهوى، انحاز إلى المطالبين بدمه والمعادين لعلي بن أبي طالب، ويدل على ذلك أمران، أحدهما أنه استشفع لنفسه عند أبي الحسن برسالة، لم يبق منها غير بيت واحد، يرويه صاحب الأغاني، فيقول: "قال في علي بن أبي طالب، رضي الله عنه:

من مبلغ مألكاً عني أبا حسن
 
 فارتح لخصم هداك الله مظلوم (80)
 

والآخر أنه كان مقرباً من النعمان بن بشير الأنصاري (81)، أحد أشهر من مالوا إلى معاوية بن ابي سفيان ضد علي بن أبي طالب (82)، ومدحه ابن أحمر بقصيدة من غرر قصائده (83).

والمصادر تضن بأخبار ابن أمر خلال اضطراب الأحوال السياسية في تلك الفترة الحاسمة من تاريخنا العربي الإسلامي، فكأنه لاذ بالصمت حتى خلافة يزيد بن معاوية (60 – 64) (84)، إذ رأينا صلته بهذا الخليفة غير ودية، فابن أحمر وقومه ربما لم يسعوا بالولاء ليزيد حين توفي معاوية، وبويع له قسراً، شأنهم في ذلك شأن أهل الحجاز الذين أخذوا البيعة بالخلافة لعبد الله بن الزبير بمكة سنة أربع وستين للهجرة (85)، وربما وقفوا منه موقف عداء، فاستخف ابن أحمر به، وشق عصا الطاعة، فقال:

أبا خالد هدَّب خميلك لن ترى
 
 بعينيك وفداً آخر الدهر جائيا
 
ولا طاعة حتى تشاجر بالقنا
 
 قناً ورجلا عاقدين النواصيا
 
فلا يأتنا منكم كتاب روعة
 
 فلن تعدموا من سائر الناس راعيا (86)
 

ولما استل بيزيد عن ابن أحمر أنه هجاه طلبه، فلم يجد شاعرنا سبيلاً غير الاعتذار إليه والفرار من سطوته وعقابه، وهو يتبرأ من هجاء جرب، نسب إليه، وناله شره، ثم ينكر حكم هذا القضاء الجائر، ويقول:

وإن قال غاو من تنوخ قصيدة
 
 بها جرب عدت علي بزوبرا
 
وينطقها غيري وأكلف حملها فهذا
 
 قضاء حقه أن يغيرا (87)
 

وتتفق المصادر على أن ابن احمر قد فر من يزيد بن معاوية، ولعل أقدم إشارة  إلى  هذا ما      كره التبريزي في تعليقه على البيتين السابقين، فقال: "كان ابن أحمر ادعي عليه أنه هجا يزيد بن معاوية فطلبه ابن حاطب، فأخذه، وقيده ثم أفلت" (88)، وقال التبريزي ثانية في تعليقه على أبيات أخرى من القصيدة نفسها: "قال هذا في هربه من أمير، كان طلبه، ليحمل إلى يزيد بن معاوية، وكان يزيد بلغه أن ابن أحمر هجاه، فطلبه ابن حاطب، ليحمله إلى يزيد، فهرب منه" (89). ولما شعر ابن أحمر أن يزيد يجد في طلبه، ويسعى إلى محاربة معارضيه في الحجاز، لم يجد من الرحيل عن الشام بداً، ورأى أن يعود إلى قومه، لينتصر بهم، فأتى البصرة في طريقه إلى الأبلة (90)، وقال:

أخبر من لاقيت أني مبصِّر
 
 وكائن ترى قبلي من الناس بصَّبرا
 
صددت صدودا عن جبابر حاطب
 
 صدود ابن كسرى عن صدود ابن قيصرا
 
وقلت له لما قضى جلَّ ما قضى
 
 وطار خباء فوقنا فتجوَّرا
 
جزى الله قومي بالأبلَّة نصرة
 
 وبدواً لهم حول الفراض وحضًَّرا
 
هم خلطوني بالنفوس وأشفقوا
 
 علي وردوا البختري المؤمَّر (91)
 

وهناك أحس ابن أحمر بالطمأنينة والأمان، فيزيد لن ينال منه، ولن يقدر عليه، والبغدادي في خزانة الأدب يرى أن يزيد "أراد أن يأخذه، ففر منه، ولم يقدر عليه" (92)، فكأنه استقرأ ذلك مما قاله ابن أحمر نفسه:

إذا ما جعلت السر بيني وبينه
 
 فليس على قتلي يزيد بقادر (93)
 

وهكذا يلوذ ابن أحمر بقومه، وولاية يزيد توشك أن تنتهي بموته عام (64هـ) (94)، وتنقطع أخباره طوال فترة الصراع بين الزبيريين، فلعله لم يكن يقوى على المشاركة في الأحداث السياسية، وقد بلغ به العمر ما بلغ، وأصاب منه المرض ما أصاب.

ويظهر أن الأيام لم تصلح ما فسد بينه وبين بني أمية، فلا نعرف له صلة بهم، إلا أن صاحب الأغاني يذكر أن ابن أحمر أدرك خلافة عبد الملك بن مروان (73 – 86 هـ) (95)، وأ،شد شعراً فيه، ويقول أبو الفرج: "قال في الجاهلية والإسلام شعراً كثيراً وفي الخلفاء الذين أدركهم: عمر بن الخطاب فمن دونه إلى عبد الملك بن مروان" (96)، ولكننا لم نجد له شعراً في خلافة عبد الملك غير قصيدة، قالها في يحيى بن الحكم بن أبي العاص، والي المدينة لعبد الملك بن مروان، وهي المشوبة التي اختارها من شعره أبو زيد القرشي في جمهرة أشعار العرب (97)، فصانها من يد الحدثان، وهذه القصيدة تعد آخر ما نجد له من شعر سياسي، يرجع  إلى  أيام كهولته التي قضاها في قومه، فكان لابد أن تظهر فيها بعض معالم شيخوخته، فهو" شيخ شموس" (98) في "الثماني من التسعين" (99)، يستغيث من جور السعاة على قومه وظلمهم بابن أبي العاص، فلا يبدو من خلال شكواه إلا سيداً من سادات قومه ولساناً معبراً عن حالهم، فيخاطب يحيى بكل حكمة وكل جرأة قائلاً:

يا يحيى يا بن إمام الناس أهلكنا
 
 ضرب الجلود وعسر المال والحسر
 
إن قمت يابن أبي العاصي بحاجتنا
 
 فما لحاجتنا ورد ولا صدر
 
إني أعوذ بما عاذ النبي به
 
 وبالخليفة أن لا تقبل العذر
 
من مترفيكم وأصحاب لنا معهم
 
 لا يعدلون ولا نأبى فننتصر
 
فان تقر علينا جور مظلمة
 
 لم تبن بيتاً على أمثالها مضر
 
لا تنس يوم أبي الدرداء مشهدنا
 
 وقبل ذلك أيام لنا آخر (100)
 

وبذلك نجد أن ابن أحمر قد نشأ أعرابياً في نجد، وارتحل فاتحاً إلى الشام، ونزل الجزيرة، وامتدت به الحياة إلى الشطر الأكبر من القرن الهجري الأول، ولكنه يكاد يكون ضعيف الصلة بأحداث عصره ورجاله.

3-عوره ووفاته:

جعل أبو العلاء المعري ابن القارح يطوف في نعيم "رسالة الغفران"، فيلقى ابن أحمر في قوم عور، فقال: "بينا هو يطوف في رياض الجنة لقيه خمسة نفر على خمس أينق، فيقول: ما رأيت أحسن من عيونكم في أهل الجنان! فمن أنتم، خلد عليكم النعيم؟ فيقولون: نحن عوران قيس: تميم بن مقبل العجلاني، وعمرو بن أحمر الباهلي، والشماخ معقل بن ضرار، أحد بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، وراعي الإبل عبيد بن الحسين النميري، وحميد بن ثور الهلالي" (101).

وتتفق كلمة العلماء على ذلك الوصف فنراهم يذكرون ابن أحمر في عوران قيس (102)، الا أن ابن قتيبة في المعارف (103) يورده في الصحابة العور، وأن ابن سيده في المخصص يورده في عوران العرب، ويقول: "عوران العرب خمسة: تميم بن ابي بن مقبل، والراعي، والشماخ بن ضرار، وابن أحمر، وحميد بن ثور الهلالي" )104)ن فإذا لم يكن ثمة تحريف أصاب عبارة ابن سيده فلا شك أنه يقصد هنا عوران قيس، لأن عوران العرب كثر (105)، وابن سيده نفسه في المحكم (106) يتفق والعلماء الآخرين في أن عوران قيس خمسة شعراء عور، ولكنه يستبدل الراعي النميري بالأعور الشني.

وأما عور ابن أحمر، فليس خلقياً،وإذا ما سألنا المصادر عن أسبابه فإننا نقف على خبرين متباينين، أحدهما رواه ابن الجراح في من سمي من الشعراء عمراً، والمرزباني في معجم الشعراء، وأما الأول، فقد قال: "أسلم، وغزا مفازي الروم، وأصيب بعينه هناك" (107)، وأما الآخر، فقد قال: "غزا مغازي الروم، وأصيبت إحدى عينيه هناك" (108)، والخبر الآخر يرويه ابن قتيبة في الشعر والشعراء، ويقول: كان أعور، رماه رجل، يقال له: مخشي، بسهم، فذهبت عينه" (109)، ويرويه البطليوسي في الاقتضاب، ويقول: "كان رماه رجل، يقول: "كان رماه رجل، يقال له: مخشي، بسهم ففقأ عينه" (110).

ويبدو أن الرأي الأول يبعد كثيراً، إذ ليس له ما يؤيده في شعر ابن أحمر، وأما الرأي الآخر، فهو نتيجة استقراء واضحة فيما يقوله ابن أحمر نفسه:

شلت أنامل مخشي فلا جبرت
 
 ولا استعان بضاحي كفيه أبدا
 
أصارني سهمه أعشى وغادره
 
 سيف ابن أحمر يشكو الرأس والكبدا
 
أهوى لها مشقصاً حشراً فشبرقها
 
 وكنت أدعو قذاها الاثمد القودا
 
أعشو بعين وأخرى قد أضر بها
 
 ريب الزمان فأمسى ضوؤها خمدا (111)
 

ويظهر أن مخشياً هذا أصاب ابن أحمر بعينه في غمرة خلافه مع قومه إصابة حقد وضغينة، فرح بها لئامهم:

تسائل بابن أحمر من رآه
 
 أعارت عينه أم لم تعارا
 
فإن يفرح بما لاقيت قومي
 
 لئامهم فلم أكثر حوارا (112)
 

وكان لهذه العلة أثر جارح في نفسه، فقد كانت رمية نافذة، أصابت كبرياءه،

ولا تقولن زهواً ما تخبرني
 
 لم يترك الشيب لي زهواً ولا العور (113)
 

وهذا الإحساس بالعور تفرد به ابن أحمر، ولم نقف على أثر له في غير شعره، فإذا عوران قيس كانوا خمسة شعراء، فإن أصحابه الأربعة لم يكونوا البتة يشعرون بالعور شعور ابن أحمر ذاته، و ربما يرجع ذلك إلى أن هذه العلة كانت خليقة فيهم، بينما نجدها طارئة على ابن أحمر، لا نملك وسيلة إلى تحديد زمانها بدقة ووضوح، ونظن أنها كانت في مطلع شبابه، وهو في غمرة خلافه مع قومه.

وعلة شاعرنا لمتكن العور فحسب،وإنما يذكر ابن أحمر نفسه أن الماء الأصفر أصابه في شيخوخته، فعالجه بالكي والشكاعى (114)، فلم يبرأ وتحت وطأة المرض وشدته يتوسل ابن أحمر إلى الله منهكاً، يرجو البرء أو الموت:

إليك اله الحق أرفع رغبتي
 
 عياذاً وخوفاً أن تطيل ضمانيا
 
فان كان برءاً فاجعل البرء نعمة
 
 وإن كان فيضاً فاقض ما أنت قاضيا
 
لقاؤك خير من ضمان وفتنة
 
 وقد عشت أياماً وعشت ليالي
 
أرجي شباباً مطرهمّاً وصحة
 
 وكيف رجاء المرء ما ليس لاقيا
 
وكيف وقد جربت تسعين حجة
 
 وضم فؤادي نوطة هي ماهيا
 
وفي كل عام يدعوان أطبَّة
 
 الي وما يُجدون الا الهواهيا
 
فإن تحسما عرقاً من الداء تتركا
 
 إلى جنبه عرقاً من الداء ساقيا
 
فلا تحرقا جلدي سواء عليكما
 
 أداويتما العصرين أم لا يتُداويا
 
شربت الشكاعى والتددت ألِدَّة
 
 وأقبلت أفواه العروق المكاويا
 
لأنسأ في عمري قليلا وما أرى
 
 لدائي إن لم يشفه الله شافيا
 
شربنا وداوينا وما كان ضرنا
 
 إذا الله حمَّ القدر ألا تداويا (151)
 

والرواة ينشدون هذا الشعر، ويقولون: كان ابن أحمر قد سُقي بطنه (116)، فلا يضيفون  إلى  ما قاله شيئاً، ولكن ابن قتيبة يجعل هذا السِّقي سبباً ل وفاته، فيقول، "سُقي بطنه، فمات" (117).

وهكذا كان السقي مرضه الذي مات فيه بعد أن بلغ عمراً طويلاً، فقد جرب – على حد تعبيره – تسعين حجة، وبلى أعمامه وأخواله، فابن أحمر كان معمراً مخضرماً، جاوز التسعين من العمر قبل أن توافيه المنية.

والرواة لم يتفقوا على العهد الذي أدركه ابن أحمر، بل نجدهم يسكتون عن سنة وفاته، والزركلي من المحدثين أول من يذهب غلفى أنه توفي نحو 65 هـ - 685م (118)، فيجعل وفاته عام بايع أهل الشام عبد الملك بن مروان، ولعل خبراً في الأغاني، أوحى إليه بهذا الزعم، وهو ما يتفرد الأصبهاني بروايته، فيقول: "أدرك الإسلام، وأسلم، وقال في الجاهلية والإسلام شعراً كثيراً ومن الذين أدركهم: عمر بن الخطاب فمن دونه إلى عهد عبد الملك بن مروان" (119)، وكأن الزركلي لم يقف على ذاك الشعر الذي لم يقله ابن أحمر في ابن مروان بالذات، وإنما قاله في يحيى بن الحكم بن أبي العاص، واليه على المدينة سنة خمس وسبعون للهجرة (120)، ليعرف أن حياة ابن أحمر امتدت إلى ما بعد السنة الخامسة والستين للهجرة بعشر سنوات على أقل تقدير.

ثم نرى الأستاذ الدكتور رضوان محمد حسين النجار يذهب إلى أنه"توفي سنة 75 للهجرة تقريباً" (121)،فيجعل وفاة ابن أحمر على أعقاب شكواه إلى ابن أبي العاص، ويكون أقرب إلى الصواب.

وإذا كان الأصبهاني يجعل ابن أحمر يدرك ابن مروان، فإننا نجد رأياً آخر، يتفرد به ابن الجراح، فيقول: "توفي على عهد رسول الله r" (122)، ثم نجد رأياً ثالثاً يتفرد به أيضاً المرزباني، فيقول: "توفي على عهد عثمان، رضي الله عنه، بعد أنبلغ سناً عالياً" (123).

ورأى ابن الجراح والمرزباني غريب، يطيح للوهلة الأولى بجملة حقائق، يراها الباحث في حياة ابن أحمر وشعرهن فإذا كان قد توفي على عهد النبي، r، أو على عهد عثمان، رضي الله عنه، فعثمان قُتل سنة خمس وثلاثين للهجرة (124)، ونحن نجد لابن أحمر صلات بمن جاء بعده من الخلفاء، فقد ذكرنا أنه قال شعراً في علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، ثم هجا يزيد بن معاوية، وشكا ظلم السّعاة إلى ابن أبي العاص، والي ابن مروان على المدينة. وهذا الشعر لا يقرى إليه شك، بل لا نجد سبباً لإثارة أدنى شك حوله، فالرواة يتفقون على أن ابن أحمر "ادّعي عليه أنه هجا يزيد بن معاوية، فطلبه ابن حاطب، فأخذه، وقيده، ثم أفلت" (125)، وابن أحمر نفسه في قصيدته التي اختارها أبو زيد القرشي في الجمهرة (126) يصرح أنه كان "في الثماني من التسعين" (127) حين شكا ظلم السّعاة  إلى  ابن أبي العاص، فإذا علمنا أن عبد الملك بن مروان قد ولى ابن أبي العاص على المدينة سنة خمس وسبعين للهجرة (128)، فإن ذلك يؤكد أن ابن أحمر كان في حوالي التسعين من العمر على الأقل، والرواة يتفقون مرة أخرى على أنه كان شاعراً مخضرماً معمراً،بلغ سناً عالية (129)، ويتفرد ابن قتيبة عنهم بقوله في الشعر والشعراء: "عُمِّر تسعين سنة" (130)، وفي المعاني الكبير: "كان بلغ تسعين" (131)، وهو في شعره ينوه بأنه "شيخ شآم" (132)، جرّب تسعين حجة" (133)، فيظل يتحسر على أيام شبابه، ويظل يندب ما يلاقيه من هرم وضعف وتقدم مفرط في السن.

وفي هذا ما يشير إلى أن ابن أحمر لم يُقبض في عهد النبي r، ولا في عهد عثمان، رضي الله عنه، ولعل تحريفاً قديما وتزيداً واضحاً أصاب عبارة المرزباني، فمن اليسير أن تختلط عبارة "ابن مروان" بـ "عثمان"، فيتداول نساخ معجمه هذا التحريف، ويتزيدون بالرضا على عثمان، ثم ينقل ذلك عن معجم الشعراء ابن حجر في الإصابة (134)، وعبد القادر البغدادي في خزانة الأدب (135)، والمرتضى الزَّبيدي في تاج العروس (136)، إلا أن ابن حجر والبغدادي يجدان أن ما قاله أبو الفرج يخالف قول المرزباني، ولكنهما لم يكونا في معرض هذا البحث.

وهكذا فابن أحمر لم يُقبض في عهد النبي r، ولا في عهد عثمان، وإنما امتدت به الحياة إلى عهد عبد الملك بن مروان (73 – 86 هـ) (137)، فإذا كنا نرى ابن أحمر "شيخاً شموساً" في "الثماني من التسعين" عام ولي ابن العاص المدينة أو بعده بقليل، ثم نراه يشكو سقياً، قضى عليه، و"قد جرَّب تسعين حجة"، فهذا يعني أنه توفي بعد ذلك عن عمر، يتراوح بين (90 و 95) سنة على الأقل، وإن اتفقنا على ذلك، فإننا نستطيع أن نقدر وفاته بين (77 و82 هـ - 696 و701 م).

إن حياة ابن أحمر لا تكاد تخرج عن النمط المألوف الذي يحياه بهدوء شاعر قضى شطراً من حياته في الجاهلية وشطراً آخر في الإسلام، فنحن لم نجد في جوانب تلك الحياة ما يمكن ان يميز ابن أحمر من غيره بين الشعراء المخضرمين الذين كان لهم دور بارز في الدعوة الجديدة، أمثال حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وعبد الله بن الزِّبَعرى وسواهم، إلا أنه يشمخ بمنزلة أديبة رفيعة، جعلته "يتقدم شعراء أهل زمانه" (138).

4-شخصيته وثقافته: إن شخصية ابن أحمر واضحة الجوانب، لا تكاد تخرج في إطارها العام عن النمط المألوف عند أهل البادية الذين لم يكن للتعقيد دور مهم في مجتمعهم وأثر بارز في نفوسهم، فقد كانوا بمنأى عن آثار الحضارة ومظاهرها، فظلت طبائعهم جلفة جافية. وابن أحمر أعرابي، نشأ في بادية نجد، ثم ارتحل فترة إلى الجزية، وتبدل بالبداوة والرعي حياة حضرية، لم يكن راضياً عنها، فاضطر أن يعود إلى موطنه حيث "النصرة" و"الشفقة" على حد تعبيره (139).

وإ        ا كانت وسائلنا إلى دراسة هذا الجانب من حياته شبه قاصرة بعد أن عرفنا أن ديوانه مفقود، وأن المصادر لا تسعفنا بأكثر أخباره، فليس لنا إلا أن نعتمد في هذا البحث ما يقوله ابن أحمر عن نفسه، وما يترائى لنا من معالم، تضافرت في كوين شخصيته. وهذا الجانب الأعرابي من شخصيته يبرز واضحاً من خلال ألفاظ غريبة ومعان جافية، تبدو ظاهرة، لفتت قدامى الباحثين إليها، فيراه غير واحد منهم "كثير الغريب" (140)، يذكر حروفاً، لم يأت بها غيره من الشعراء، ومنها "كأس رَنَونَاة"، أي: دائمة، وذلك في قوله:

بَنَّت عليه المُلكَ أطنابَها
 
 كأس رنوناة وطِرف طِمِر (142)
 

وهذا الراعي النجدي قد يمتح من صميم الصحراء وأعماقها معاني دقيقة،قل من يعرفها، وأمثال هذا قوله:

 

تلَسَّن أهلُه زمناً عليه
 
 رماثاً تحت مِقلات نَيُوب (142)
 

ونقل ابن ثعلب وابن منظور عن ابن السكيت شرحه، فقال ثعلب: "هذا غريب، والمعنى فيه أنهم أقاموا للناقة فصيلاً، ليستدر لبنها" (143)، وقال ابن منظور: "هذا معنى غريب، قلَّ من يعرفه" (144).

وأمثال هذا لا يعرفه إلا من تبدى، أو اختلف فترة من الزمن إلى البادية، ولعل في هذا دليلاً على جفاء هذا الأعرابي وارتباطه الوثيق بحياة الصحراء.

وهذا الأعرابي أسلم، وحَسُن إسلامه، فتهذب بمكارم الأخلاق التي أتى بها هذا الدين الحنيف، ليتممها بين عرب الجزيرة، ولكن بقية من جاهلية ظلت في نفسه، ولعل أبا زيد القرشي أول من تنبه على ذلك، إذ رأى في شعره شيئاً من معالم الإسلام وشيئاً آخر من آثار الجاهلية في آن معاً، فجعل ابن أحمر من أصحاب المشوبات التي اختارها في جمهرته من دواوين سبعة شعراء مخضرمين، وقال: "أصحاب المشوبات، وهن سبع اللائي شابهن الإسلام والكفر، وهم: النابغة نابغة بني جعدة، وكعب بن زهير، والقطامي التغلبي، والحطيئة العبسي، والشماخ بن ضرار الغطفاني، وعمرو بن أحمر وتميم بن مقبل" (145).

ومن الطبيعي أن نلاحظ ذلك عن هؤلاء الأعراب الذين نشأوا في بوادي نجد، وقضوا شطراً مهماً من حياتهم قبل الإسلام. فابن أحمر ما انفك يذكر مثلاً جاهلية عدة كطلب الوِتر وشرب الخمر وزجر الطير وكالعصبية القبلية بكل مظاهرها، وهو يذكر مجلس شراب واحداً قبل أن ينهاه الحلم والدين عن ذلك الرجس، وربما أشار إلى شيء من اللهو والمجون، ولكنه لا يصرح به، وإنما يورد ذلك من خلال لهو الملك الضليل ومجونه، وهو يتحدث عما كان فيه من سفه الشباب، فيتراءى لنا ابن أحمر فتى عابثاً، يستجيب لهوى نفسه ونوازعها، فلا يلوي على شيء من القيم قبل أن يعلم "ما ينفع مما يضر":

بل ودعيني طفل إني بكر
 
 فقد دنا الصبح فما انتظر
 
أن تغضب الكأس لما قد أنت
 
 إن أداة الكأس شيء نكِر
 
إن امرأ القيس على عهده
 
 في إرث ما كان أبوه حُحُر
 
بنَّت عله المُلك أطنابها
 
 كأس رنوناة وطرف طِمِر
 
يلهو بهندٍ فوق أنماطها
 
 وفَرْتَنى تعهدو إليه وهِر
 
أدى إلى هند تحياتها
 
 وقال: هذا من وداعي دُبُر
 
إن الفتى يُقتِر بعد الغنى
 
 ويغتني من بعد ما يفتقر
 
والحي كالميت ويبقى الفتى
 
 والعيش فنَّان فحلو ومر
 
أما على نفسي واما لها
 
 فعايش النفس وفيها وقَر
 
هل يُهلكنِّي بَسط ما في يدي
 
 أو يخلدنِّي منع ما أدخر
 
ولن ترى مثلي ذا شيبة
 
 أعلم ما ينفع مما يضر (146)
 

وبان أحمر دائم الحسرة على شبابه، بل توشك حسرته أن تكون توطئة لأغلب أغراضه، ؟؟ ما شكا ظلم السعاة، فليس ثمة تمهيد لشكواه الا أن يندب شبابه (147)، وإذا ما كان بين يدي ممدوحه، فلن يجد مدخلاً إلى غايته سوى ذلك العهد الماضي (148)، وإذا ما ذكر مجلساً، حدثنا عما فيه من سفه الصبا، فأولما يأسى له شبابه الذي ولى:

بان الشباب وأخلف العمر
 
 وتنكّر الأخوان والدهر (149)
 

وشاعرنا يشير إلى تعلقه بغير امرأة أيام شبابه، ولكن حديثه فيهن حديث عام، لا يصدر عن شاعر ماجن كامرئ القيس وطرفه في الطاهلية وكعمر بن أبي ربيعة في الإسلام، وإذا ما تراءى لنا شيء من المجون، فإننا نجده غامضاً، يتستر وراء لهو الملك الضليل وعبثه، فكان ابن أحمر قد طبع بالمدرسة النجدية العذرية أجمل طبع وأرقه.

وابن أحمر لا يلح كثيراً على مظاهر شبابه، ولا يصر على ما نجده في شعره من ارث الجاهلية، فقد تهذب بمكارم الأخلاق أحسن تهذيب، وآمن بالدين الجديد أعمق الإيمان، فهو رجل شهم ذو نجدة ومروءة، لا تخونه الفعال الحسنة والوفر الواسع إذا ما استغاثت به الركاب:

لوبي تحمست الركاب إذا
 
 ما خانني حسبي ولا وفري (150)
 

وديوان العرب سيظل يحفظ لهذا الشاعر موقفاً فذاً في وجه السعاة المترفين الذين أهلكت سياطهم الناس ذلاً وجوراً، فقد قام بحاجة هؤلاء المقهورين خير قيام، وكان صوت الحق في وجه سلطان جائر، أنذره ابن أحمر بالشدائد من الأيام، وتوعده برجال شجعان، أخلصوا أنفسهم لله، وسخروها للحق:

اني أعوذ بما عاذ النبي به
 
 وبالخليفة أن لا تقبل العذر
 
من مترفيكم وأصحاب لنا معهم
 
 لا يعدلون ولا نأبى فننتصر
 
فان تقرّ علينا جور مظلمة
 
 لم تبن بيتاً على أمثالها مضر
 
لا تنس يوم أبي الدرداء مشهدنا
 
 وقبل ذلك أيام لنا أخر
 
من يمس من آل يحيى يمس مغتبطاً
 
 في عصمة الأمر ما لم يغلب القدر
 
ورَّادة يوم بعث الموت رأيتهم
 
 حتى يفيء إليها النصر والظفر
 
من أهل بيت هم لله خالصة
 
 قد صعَّدوا بزمام الأمر وانحدروا
 
كأنه صبح يسري القوم ليلهم
 
 ماض من الهند وانيَّات من سدر
 
يعلو معداً ويستقي الغمام به
 
 بدر تضاءل فيه الشمس والقمر (151)
 

فيبدو أنه شيخ شموس، عسَر في عداوته، شديد الخلاف على من عائده، حتى يُقر الحق، ويرفع الظلم، و هو يشير  إلى  ذلك، فيقول:

شيخ شموس إذا ما عزّ صاحبه
 
 شهم وأسمر محبوك له عذرا (152)
 

لذلك نراه يحرص على أن لا يدخل في مهاجاة، حتى قال الأصمعي: "ابن أحمر لم يهاج أحداً" (153)، فإذا وجدنا ابن أحمر يعرض "برجل كان يشتمه، ويعيبه، يقال له: سفيان" (154)، فهذا الترعيض لم يكن ليبلغ سوى حد السخرية والمهانة، ويقول:

نبِّئت سفيان يلحانا ويشتمنا
 
 والله يدفع عنا شر سفيانا
 
فداك كل ضئيل الجسم مختشع
 
 وسط المقامة يرعى الضأن أحياناً
 
تهدي إليه ذراع الجدي تكرمة
 
 اما ذبيحاً واما كان حُلاَّنا
 
عيط عطا بيل لثن الري وابتذلت
 
 معاطفاً سابريَّات وكتَّانا (155)
 

وإذا خاصم في ضجاج مضلا، فانه يدعه، ولا يلتفت إلى مجادلته:

وخصم مضل في الضجاج تركته
 
 و؟؟ كان ذا شغب فولى مواتيا (156)
 

فأخلاقه تأبى أن يدخل في نفرة، قد تحط من حسبه ووفره، وتهلك حياً ذا عدد وقدر:

تقلدت ابريقاً وعلقت جعبة
 
 لتهلك حياً ذا زهاء وجامل
 
فلا تحسبني لنفرة
 
 وان كنت نطاطا كثير المجاهل (157)
 

وهو ليس بجبان، ولكنه يخشى بوائق الدهر وصروفه، ومتى حاولت يد الحدثان أن تنال من عرضه، فانه لا يستكين لها، ولا يلين:

ولست بهيرع خفق حشاه
 
 إذا ما طيرته الريح طارا
 
ولست بعرنة عرك سلاحي
 
 عصاً مثقوبة تقص الجمارا
 
ولا ينسيني الحدثان عرضي
 
 ولا ألقي من الفرح الا زارا (158)
 

فابن أحمر ليس رجلاً هدانا، يهاب الشدائد، ولكنه حريص أن لا تصغر نفسه في عداوة، لا طائل فيها. ولاشك ان ابن أحمر قد جبل على تلك السجايا الرفيعة والأخلاق الكريمة، حتى كأنه يراها مزية، تسمق بالشاعر، و من هنا ندرك معنى اختياره زهير بن أبي سلمى أشعر الناس، فكأنه يشاكله في هذه الأخلاق، ويقول أبو زيد القرشي: "قال ابن أحمر: زهير أشعر الناس" (159).

وهذه الجبلة التي طبعت على الحق والخير جعلت شاعرنا يرغب عن النفاق في صلته برجال عصره، فتصدى لسعاة والي المدينة، وتعرض ليزيد بن معاوية الذي أخذت له البيعة بالمكر والعنف. والرواة لم ينشدوا له غير مدحة واحدة في النعمان بن بشير الأنصاري، لا نكاد نجد فيها أثراً للمداجاة أو للمصانعة التي يراها الأستاذ الدكتور عبد الحفيظ السطلي "ظاهرة طبيعية في تلك الفترة، ذلك لأن تقلب الأحداث السياسية بسرعة والصراع العنيف بين الطامحين إلى الحكم والسلطان ولاسيما في العراق، قد جعل أمثال العجاج يرهبون ان تدور الدائرة عليهم أو على قومهم في ظروف، لم تكن لها سابقة في تاريخ القبائل" (160).

ولعل ابن أحمر كان على شيء من اليسر، وهو يذكر غير مرة أنه صاحب رعي وركاب، فلم يكن يسعى إلى جاه أو مال مثل بعض شعراء عصره.

وبذلك نرى أن شخصية ابن أحمر متعددة الجوانب، واضحة المعالم، مألوفة السجايا، تضافرت في تكوينها عدة عناصر، كان من أهمها: نشأته بنجد نشأة أعرابية في قوم، كادوا أن يخلعوه في شبابه، ثم كان صوتهم الأقوى في شيخوخته، ومنها ما كان وليد العاهة والمرض، ومنها ما كان وليد الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية التي عاصرها في الجاهلية والإسلام.

وهذه العناصر ضربت جذورها في أعماق نفسه، فلم يستطع الواقع الجديد في الجزيرة أن يترك أثراً كبيراً في تلك النفس، أو أن يغير شيئاً من ثقافته الأعرابية، ولهذا نرى أن لسانه زل في التعبير عن مظهر من مظاهر تلك الحياة الجديدة التي لا تتصل بحياة الأعراب، فقد أخذ عليه العلماء قوله في وصف امرأة:

لم تدر ما نسج اليرندج قبلها
 
 ودراس أعوص دارس متخدِّد (161)
 

فظن ابن أحمر أن اليرندج مما ينسج، وإنما هو جلود سود، تعمَل منها الخفاف، وهذا الخطأ أخذه عليه عدد من النقاد، أمثال ابن السكيت (162)، وابن قتيبة (163) وابن عبد ربه (164)، والجرجاني (165)، وأبي هلال العسكري (166)، والسيوطي (167) وغيرهم.

 عمرُو بن أحمر الباهلي الشاعِر المخضرَم - محمد محي الدّين مينو
بداية
الصفحة