نشأة نظام الشرطة وتطوّره
آخر
الصفحة
اشراقة القلوب

  • المشاركات: 83552
    نقاط التميز: 2951
مشرفة سابقة
اشراقة القلوب

مشرفة سابقة
المشاركات: 83552
نقاط التميز: 2951
معدل المشاركات يوميا: 11.9
الأيام منذ الإنضمام: 7027
  • 12:02 - 2009/07/14
عرفت الدول القديمة نظام الشرطة على خلافٍ فيما بينها ، فقد عرفته مصر الفرعونيّة بصورة حراسةٍ على القصور لحماية الملوك ، ثمّ توسّعت فيه وصار له مهامٌّ أخرى تعلّق أغلبها بمفهوم حماية الملك .
وعرفته أثينا بطريق تخصيص رجالٍ للمحافظة على النظام والأمن في المدن ، ومن هنا جاءت كلمة Police الّتي تعني باليونانية ( المدنيّة ) أو الحضارة .
وفي عصر الرومان عرف نظام الشرطة وكانت إدارتها في كلّ إقليم تسند إلى موظّفين اثنين رئيسيين ينوب عنهما موظّفٌ يقوم بأعباء الأمن في كلّ مدينةٍ وقريةٍ.
وفي العصر البيزنطي وجد في هذه المدن والقرى موظّفٌ يحمل اسم ( الحامي ) كانت وظيفته حماية الفقراء من ظلم الأغنياء ، ويقوم ببعض أعمال الشرطة .
وأمّا العرب الّذين لم يعرفوا في جاهليّتهم نظام الشرطة ، فإنّهم لمّا قامت دولة الإسلام وجدت هذه الدولة حاجةً لحماية المجتمع الجديد ، فأنشأت مؤسّسة الشرطة للمحافظة على الأمن ، وتعقّب المشبوهين ، وصيانة العقيدة ، غير أنّ المؤلّفين المسلمين لا يتّفقون على تاريخ إنشائها . فنرى أنّ المقريزي ( في كتاب الخطط المقريزية ) يقول أنّ أبا بكر هو أوّل من أنشأ نظام الشرطة في مكّة لتعقّب الفاسدين ، وسمّاها ( العسس ) ويرى السيوطي ( في كتاب تاريخ الخلفاء ) أنّ عثمان بن عفّان هو الّذي أنشأ هذا النظام ، وعيّن على رأسه عبد الرحمن بن قنفذ ( وهو أوّل قائد شرطةٍ في الإسلام ) وسمّاه صاحب الشرطة ، ويعود إلى عمر بن الخطّاب فضل إنشاء أوّل حراسةٍ ليليّةٍ خصّص لها رجالاً يتناوبون في دوريّاتٍ منتظمةٍ للإشراف على الأسواق ، بل وكان يتابع سلامة البيع والشراء وقد عيّن على رأس الحرس مولاه أسلم ثم عبد الرحمن بن عوف . وقد احتفظ عليّ بن أبي طالب لهذه المؤسّسة باسم الشرطة ، ويروي الطبري (في كتاب تاريخ الرسل والملوك ) أنّ عليّاً أحدث ما سمّي بشرطة الخميس أي شرطة الجيش ، وقد بلغ عددها في عهده أربعين ألفاً وعيّن عليهم قيس بن سعد .
وتوسّعت الاختصاصات في العهد الأموي ، فوضع معاوية نظاماً لمراقبة المشبوهين ، وأعدّ سجّلاً في دمشق يتضمّن إجراءات مراقبتهم ، كما استحدث نظاماً يشبه نظام الهويّة الشخصية الّتي كان عليهم أن يحملوها معهم ، وغيّر اسم صاحب الشرطة وأصبح يعرف بصاحب الأحداث (وكان يدخل في اختصاصه أيضا استعمال القوّة لإخماد الفتن والثورات)!.
وفي العصر العباسي أعيد اسم صاحب الشرطة ، وتوسّعت اختصاصاتها ، إذ أصبح من واجبها القيام بمهامّ حراسة الخليفة وأسرته ، وألحق بها ( ديوان الديّة ) و( ديوان النظر في المظالم ) ، وبسبب توسّع نظام الشرطة نجد أنّ بغداد قسّمت إلى قسمين كان فيهما شرطة الجانب الشرقي وشرطة الجانب الغربي ، و أنشأ المأمون نظام المباحث كما نعرفه اليوم متطوّراً ، وحتّى أنّه أطلق بعض النسوة لمعرفة تحرّكات خصومه السياسيين ولمراقبة الأشرار ! وتمّ أيضاً في هذا العصر إنشاء نظام للسجون لا يختلف كثيراً عن النظم المتّبعة حاليّاً . ووجد في هذا العصر ما سمّي ب : ( المحتسب ) الّذي كان يختصّ بالجرائم المخلّة بأحكام الدين ، إلى جانب صاحب الشرطة الّذي كان يختصّ بالجرائم العاديّة !
وفي العصر الفاطمي قسّمت المدن إلى أحياء وعيّن لها رجالاً يحرسونها ويضبطون ما يقع فيها من جرائم ، وأطلق عليها اسم ( أصحاب الأرباع ) ولكنّ الاسم ظلّ ولاية الشرطة أو الولاية للاختصار .
وفي عصر المماليك أصبح اسم صاحب الشرطة يختفي ويحل مكانه اسم الوالي ( والي الشرطة ) ، وكان يتبعه وكيل اسمه ( النائب ) وضبّاط يسمّون ب ( الأعوان والنقباء) ونقاط للشرطة تسمّى المراكز . وقد شغل صلاح الدين الأيوبي أثناء شبابه منصب ( قائد شرطة دمشق ) ، واهتمّ بمحاربة الفساد والرشوة ومظاهر الخلاعة والمجون .
وأمّا في العصر العثماني فقد صارت أعباء الشرطة ملقاةً على عاتق ( آغا المستحفظان ) وكان أشبه بقائد الشرطة ، و( الوالي) الذي كان أشبه بالمحافظ ،وكان يتبعهما ضبّاطٌ يسمّون ب( الأوضباشية) و( القلقات ) ، وكان بعضهم يرأس نقاطاً للشرطة تدعى أيضا القلقات ويساعدهم بعض الجنود والخفراء ، وفي غير العواصم كانت أعباء الشرطة مسندةً إلى حكّام الأقاليم( الكشّاف ) أو( الصناجق ) ضمن أعبائهم العسكريّة والإداريّة والماليّة الأخرى واشتهرت الدولة العثمانية بنظام الجندرمة ، وبنظام رجال المباحث الّذين كانوا يسمّون ( البصّاصين ) وكانوا على درجة كبيرة من سوء السيرة والانحلال !

وبعد فترة الاحتلال العثماني وخلال الانتداب الفرنسي على سورية ، حاول الفرنسيّون ضمن مشروعهم في إلغاء القوانين العثمانيّة الّتي كان معمولاً بها ، وإلقاء ظلّ القوانين الفرنسيّة الحديثة على التشريع السوري أن يشمّلوا هذا الاتجاه مؤسّسة الشرطة فأوجدوا إلى جانب الشرطة نظام الدّرك ( في الأرياف) ، ولكنّ ظروف ( استعمار) سورية من قبل الفرنسيين لم تتح إيجاد نظام دركٍ متكاملٍ وصحيحٍ ، لأنّ دولةً ناقصة السيادة لن يكون بإمكانها الحصول على جهاز شرطةٍ فاعلٍ يقوم بالمهامّ المفترض به القيام بها .
والواقع أنّه عندما انفصلت سورية عن الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى لم يكن في دمشق سوى ثمانين رجلاً بين مفوّض وشرطي كانوا البقيّة الباقية من قوى الأمن التي تبعثرت بعد انسحاب الأتراك من الجيش العثماني .
وكان ملاك شرطة الولاية يومئذ مائة وخمسين رجلاً من مختلف المراتب ثم أضيف إليهم ستّين شرطيا فرض مجلس إدارة الولاية بأمر الوالي وموافقة وزير داخلية الحكومة العثمانية على بلدية دمشق أن تقوم هي بدفع رواتبهم لعدم استطاعة خزينة الدولة تحمّل هذا العبء !. وأطلق على هذا العدد الإضافي اسم (بوليس معاوني) أي معاون شرطي وتوزّعت هذه القوّة من رجال الشرطة في دمشق وفي بعض الأقضية القريبة منها .
وبما أنّ هذا العدد غير كافٍ لحماية الأمن في المدينة لذا كانت قيادة موقع دمشق العسكري تخصّص مساء كلّ يوم فئةً مؤلّفةً من أربعين عسكريّاً يجوب كلّ أربعةٍ منهم شوارع دمشق في دوريّاتٍ راجلةٍ بأمر شرطي مدني حتّى منتصف الليل للمحافظة على الأمن .
وعندما احتلّ الجيش العربي بقيادة الأمير فيصل مدينة دمشق قام بجمع شتات رجال الشرطة المبعثرين هنا وهناك ، وتولّى تنظيم الشرطة الجنرال حدّاد باشا الموفد من الجيش العربي بأمر من الجنرال اللنبي ، فأسرع حدّاد باشا بتعيين من اعتقد فيهم الإخلاص والكفاءة وصار يمطر الرتب على الجدد والقدماء لا سيّما المفوضين ( وكان يقول لمن يختاره بلهجته المصرية: أعلّقلك نجمة أو نجمتين يا ابني ) !
ولقد بلغ ملاك الشرطة زهاء ثلاثمائة رجل مع عدد كبير من المفوّضين وكانت الشرطة تخدم حكومة بلاد العدو المحتلّ !
ثم انقلبت إلى شرطة الإمارة الفيصلية ، ثم صارت شرطة المملكة السورية ولم يتسنّ لمن تولّوا أمر تنظيمها أن يتفرّغوا لذلك إلى أن كانت كارثة احتلال البلاد من قبل جيش الانتداب الفرنسي فعمّت الفوضى ووقعت حوادث (خربة غزالة) في حوران التي اغتيل فيها بعض الوزراء ، واتّبعت السلطات المنتدبة سياسة الإرهاب والبطش وتوقيف المواطنين وإبعادهم، ووضعت الشرطة تحت إمرة مدير الأمن العامّ الفرنسي الملحق بالمفوض السامي في بيروت ومستشاره في دمشق ومكتب الاستخبارات أيضاً ، وحشر الفرنسيون في الشرطة الأشخاص الذين يثقون بهم من حثالة الناس الذين كانوا يتسابقون في التجسّس ونقل الأخبار الكاذبة لينالوا الحظوة لديهم !
والحقيقة أنّ أشخاصا كحمدي الجلّاد المدير العامّ للشرطة في دولة دمشق في العام 1928 وقبله رشدي الصفدي وبمباركة من حكومة علاء الدين الدروبي وغيرهم كانوا لا يتوانون عن محاولة حدّ سلطات المستعمر الفرنسي التي فرضت على الشرطة السوري آنذاك ، ولقد وافق الجنرال غورو على بعض الطلبات المتعلّقة بهذا وأصدر قراراً يحدّد مداخلة الحكومة المنتدبة بشؤون الشرطة واستقلالها في أمورها . وتمّ تقسيم الشرطة بعدئذ إلى الأقسام التالية:
1- القسم العدلي. 2- القسم الإداري . 3- التفتيش . 4- الشعبة السياسية . 5-التحرّي والأبحاث . 6- الديوان. 7- المحاسبة . 8- مفوّضية المركز.9- الضابطة الأخلاقية. 10- الخطوط الحديدية .11- السير. 12- الفرسان. 13- الحرس. 14- المدرسة. 15- السجل.16- المستودع.17- الطبابة . 18- ديوان التأديب. 19- مجلة الشرطة.
وكانت لكلّ قسم أو شعبة رئيس تكون رتبته بحسب أهمّية هذا القسم .

ثمّ كان صدور نظام خدمة الشرطة بالقرار رقم 1962 عام 1930 ويعدّ هذا النظام نظاماً شبه متكاملٍ بالنسبة للفترة التي نظّم فيها ( حتّى أنّ أغلب موادّه مازالت ساريةً حتّى اليوم بسبب تطابقها مع روح قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي الّذي استمدّ منه قانون أصول المحاكمات الجزائيّة السوري ) ، إلّا أنّ الشرطة مع كلّ المحاولات والمطالب المتناثرة هنا وهناك كانت تعمل أيّام الفرنسيين تحت إمرة القائممقامين وموظّفي الأمن والحكومة المعيّنين من قبل المندوب السامي الفرنسي أو بناءً على توجيهاته .

ومع كلّ هذا يمكن القول أنّ نظام خدمة الشرطة المذكور نظامٌ يأتلف في أحكامه مع روح نصوص القانون السوري ، وهو بحاجةٍ إلى تعديلٍ ردماً لفوارق الزمن الّتي تغيّر فيها كثيرٌ من الوقائع والحيثيّات ، إضافةً إلى ضرورة تنسيق النصوص القانونية الّتي أصبحت كثيرةً فيما يتعلّق بخدمة الشرطة السورية وقوانينها ونظمها ونظامها الداخلي أيضا.
أيّ إنّ الحاجة أصبحت ماسّةً للحصول على تشريع واحدٍ واضحٍ ، فيما يتعلّق بنظام الشرطة السورية ابتداءً من نظامها الداخلي وانتهاءً بعلاقتها مع السلطات الشتّى .

وسنرى خلال هذا البحث أنّ الكثير من المفارقات تعترض مسائل جوهرية تتعلّق بعمل الشرطة ذي الارتباطين القضائي والإداري ! وبوضع رجال الشرطة من حيث هل هم مدنيّون أم عسكريّون؟ وبكثرة وتداخل الأنظمة والقرارات والقوانين الّتي تحدّد مهامّهم أو تلقي عليهم مهامّاً جديدةً . وبالمشكلات غير البسيطة الّتي تعترضهم خلال القيام بوظائفهم ، إضافةً إلى الحاجة إلى تحديد وتنظيم دور الشرطة ، في معرض قيامها بوظيفة الضابطة العدليّة على الأخصّ ، لمنع التجاوز والانتهاك الذي قد يحدث ( بل يحدث فعلاً ) على حريّات المواطنين وحقوقهم ضمن عمل هذه الضابطة .


 نشأة نظام الشرطة وتطوّره
بداية
الصفحة